يبرود | «سلامي على النصرة على الكفر منتصرة»، «القصير لم ولن تسقط أنتم الساقطون»، «القلمون لكم بالمرصاد فهلمّوا الى مقابركم فيها»، «يبرود مدينة الجماجم»... شعارات معارضة منتشرة على جدران كثيرة في مدينة يبرود، المدينة السورية التي لم تكن قبراً لأحد. وقعت فيها معركة، انتهت سريعاً بفرار من توعدوا اعداءهم بشعارات «بخّوها» على الجدران.
لا دمار هنا مقارنة بالمناطق الأخرى التي شهدت معارك عنيفة. من الواضح أن المسلّحين الذين كانوا يتحصّنون في يبرود، لم يفرّوا على وجه السرعة... بل نقلوا كل شيء معهم. في بعض الأكياس المرمية على جانبي الطريق تبيّن أنها تحوي مجموعة من جوازات السفر، لجنسيات سورية، وبينها جواز لسيدة لبنانية. المدينة التي جرى تمشيطها بالكامل، لا يزال جنود الجيش السوري ومقاتلو «حزب الله» ينفذون فيها عمليات دهم في عدد من الأمكنة، بناء على معلومات معينة، للكشف عن مخزن سلاح أو سيارة مسروقة أو مفخخة.
أحياء كثيرة بمبانيها الخالية من السكان، تعرّضت للقصف الذي تسبّب في خلع أبواب المحال والمنازل. المحال التجارية المشلّعة أبوابها فارغة من بضائعها. بعض الجنود يجلسون على شرفات المنازل، يلقون التحية ويرفعون شارة النصر. قوات الجيش السوري والحرس الجمهوري واللجان الشعبية ينتشرون في كل مكان، لكنهم يتمركزون على نحو كبير في الساحة الاساسية، التي شهدت منذ أيام رفع العلم السوري. تسمع أصوات الرصاص بين حين وآخر، رصاصات ابتهاج في المدينة، وأخرى صداها قريب من أحد الاماكن المحيطة حيث لا تزال المعارك تدور فيها، لكن أصوات المدفعية الموجّهة إلى فليطا أقوى بكثير، ولم تتوقفّ طيلة النهار. بعد انسحاب وسائل الاعلام التي غصّت بها ساحة يبرود، أخذ المقاتلون وقت استراحة، فهمنهم من أخذ قيلولته تحت أشعة الشمس في حديقة الساحة، فيما لعب بعضهم الآخر كرة القدم.
يبرود، التي وصفها المعارضون بأنها «مقبرة الجيش السوري وحزب اللات» سقطت من يد المسلّحين ظهر يوم السبت الماضي، كما يؤكّد أحد قادة الجيش الميدانيين. «24 ساعة فقط لا أكثر»، هي مدة المعركة، بحسب المصدر. من على التلة الخضراء، المشرفة على السحل ومزارع ريما وسائر المناطق المحيطة، المشهد أوضح، لفهم سير المعارك وهروب المسلّحين بعد محاصرتهم. على طول الطريق باتجاه التلة، التي تقع خلفها تلة مار مارون، جنود يستلقون على الأرض، فيما زميل آخر لهم ينشر ثيابه العسكرية المبلّلة. عند التلة، عناصر أمنيون منتشرون للمراقبة. «بعد السيطرة على التلال المحيطة بيبرود ومحاصرتهم، اندحروا جميعاً»، يشرح القائد. ويشبّه ما حصل هنا، بمعركة ريف القصير، حيث انسحبوا منها بعدما سيطر الجيش على التلال المحيطة. لذلك لم تشهد المدينة معارك عنيفة، بل المعارك الأعنف كانت قبل دخولها. أدت تلّة مار مارون دوراً أساسياً في تسهيل الدخول إلى يبرود، بعدما «حوصروا تماماً»، بحسب القائد، الذي يكشف أنه كان في المدينة «حوالى 2600 مقاتل، وغالبيتهم من جبهة النصرة، وممن فرّوا من ريف القصير، جرى أسر حوالى ثلاثين منهم». ويختم بأنّ «يبرود هي رسالة عسكرية وسياسية... والمفاجآت أكثر». وجد عناصر الجيش بعض الحاجيات الخاصة بمسلحي «جبهة النصرة»، مثل الالبسة التي طبع عليها اسم التنظيم، «لم يتركوا شيئاً خلفهم، نقلوا كل شيء قبل الهروب».

عائلات قليلة صمدت في بيوتها

سكان المدينة خرجوا منها جميعهم عند اشتداد المعارك في مزارع ريما المطّلة على يبرود، لكن بعض العائلات المعدودة بقيت في بيوتها. أحد الجنود، لدى السؤال عن المدنيين، يدّلنا على منزل: «منذ قليل اكتشفنا أن رجلاً وزوجته لم يغادرا البلدة أبداً».
اتجهنا فوراً باتجاه المنزل، وألقينا التحية بصوت عال وانتظرنا. بعد دقائق خرجت سيدة خمسينية مسرعة نحونا. خداها محمرّان. وبادرت بالقول: «والله شفنا فيكم البركة»، قالتها وهي تبكي. فهي وزوجها محمد أقفلا الباب وجلسا معاً طوال الأيام التي شهدت معارك في البلدة. لم يضطرا إلى إطفاء النور لإخفاء وجودهما، لأن الكهرباء بالأساس مقطوعة. كانا يستمعان إلى أصوات القذائف التي اشتّدت في اليومين الأخيرين قبل دخول الجيش. «كان الصوت عنّا بالبيت، كلو يرجّ!». يصر الزوجان على استضافتنا في المنزل: «ما بيصير بلا ضيافة». تركض ملك لتقدّم لضيوف «الغفلة» القهوة والسكاكر. تقول: «كنّا أمنّا المونة وبتكفينا لشهر». محمد يعمل حلاقاً في المحل الذي يملكه. يعيش ورفيقة دربه في المدينة منذ عشر سنوات. هما من حلب، لكن العمل والرزق هنا كانا أفضل. «ليش بدنا نروح»، ردّ محمد عند سؤاله عن سبب بقائه في يبرود... «أملنا بالجيش السوري وما خاب». ويروي كيف «حوصرنا، والحمدالله عنا أكل، ما عطلنا هم». يستطرد بسرعة ليتكلم عن الأوضاع التي حلّت في سوريا: «يا بنتي صار متل الافلام يلي كنا نشوفها هي ذاتا بالواقع هنا». تقاطعه زوجته لتخبرنا أنّ «أهالي يبرود كلهم حبّابين وأذكياء وشاطرين وبيحبوا العلم»، مضيفةً: «نحنا من حلب وصرلنا 10 سنين هون، وما بحياتنا حدا ضايقنا».
خلال فترة وجود المسلّحين في المدينة، لم يتوقّف محمد عن عمله كحلاق، «مهنتي اجتماعية كثيراً من خلال الاختلاط بالناس، كنت اسمع بس»، يقول.
كما كان يلجأ إليه الأهالي، زاره مسلّحون معارضون أيضاً. «كلهم غرباء عن المنطقة، هول ما حدا في يمون عليهم، مرتزقة»، لكن بالنسبة إلى عمله، «كنت احلق واسمع بس، الكل هون كان هيك».
يدعو محمد ربّه بأن يعيد سوريا إلى ما كانت عليه: «مرحلة وبتمرق، نحنا أهلنا بحلب ما فلوا، هون وضعنا أسهل». لم يقبل محمد إلا أن نأخذ معنا بعض السكاكر، فلا مطاعم هنا ولا محال مفتوحة، كما أن «من زار حياً ولم يُكرمه فكأنما زار ميتاً».
في الطريق داخل الأحياء، يلقي علينا التحية رجلان في سيارة مدنية. هما موظفان في مؤسسة الكهرباء، وأُرسلا في مهمة للبدء فوراً باصلاح الشبكة قبل عودة المدنيين. خلدون حدة، مدير قسم كهرباء يبرود، رحل مع عائلته منذ نحو أسبوع إلى الشام، لكنه عاد إلى وظيفته: «باشرنا ايصال التوتر الى المحطة استعدادا لعودة المدنيين». وأكّد خلدون أن الحياة كانت «طبيعية، الاشغال وكل شيء كان ماشي قبل أسبوع، بس الكل فل لمّا احتدّت بمزارع ريما».
زميله أيضاً اتجه مع عائلته الى دير عطية قبل أسبوع أيضاً: «رح نرجع كلنا، وأتوقع أن يبدأ الاهالي بالعودة خلال اليومين المقبلين». لدى السؤال عن تعرّض أيّ أحد في المدينة لاعتداء من قبل المسلحين، ذكر المدنيون وحتى الجنود، أنه لم تجر في يبرود أي عمليات اعتداء على المواطنين، لسبب واحد فقط، «المدينة غنية وسيطروا على كل المعامل وكل شيء، كانوا مكتفيين من كل شيء».


يمكنكم متابعة رشا أبي حيدر عبر تويتر | @RachaAbiHaidar




تحطيم الكنائس

آوَت يبرود راهبات دير مار تقلا في معلولا لأشهر طويلة، لكن الفيديو الذي نشرته الجهة الخاطفة، والذي أظهرت فيه مدى «حنّية» الخاطفين وحسن سلوكهم، بعيد كل البعد عن الخراب والحقد. يكفي أن تزور كنيسة السيدة للروم الكاثوليك، على بعد مئات الأمتار من مستشفى «الأمل». الكنيسة الحديثة والضخمة، فور الدخول إلى باحتها، تنبئك بمشاهد مروعة أكثر داخل الكنيسة، فصور السيدة العذراء هنا كلها مشوهة وممزقة؟ أمّا في الداخل، وقبل الوصول إلى المذبح، فالمقاعد كلها محطّمة، إضافة الى الايقونات واللوحات التي كانت تزيّن الجدران. على الأرض، رأس تمثال السيد المسيح مفصول عن الجسد ومرمي جنباً، أما بقايا التمثال، فمبعثرة على الأرض، بينما الأناجيل أُحرقت. أحد العساكر في الجيش السوري وهو ينظّف المكان يعلّق بأن «هذه هي طقوس المسلّحين التكفيريين». أما تمثال السيدة العذراء، فلا يزال صامداً... لكن الوجه مشوّه.
في الحي القريب من الكنيسة، سيدة خارج منزل كبير يتألف من طابق واحد. أثناء قيامها بالتنظيف، تستقبلك أم أديب بحرارة وتدعوك للدخول. هي وزوجها أيضاً لم يبارحا مكانهما. تزيّن بوابة منزلها بصورة لكل من الرئيس السوري بشار الأسد والامين العام لحزب الله حسن نصر الله. «شو بدنا نعمل، ما في محل نروح عليه، سلّمنا قدرنا لله، نحنا مؤمنين»، تقول. يخرج أبو أديب حاملاً ابريق القهوة وفناجين، يصرّ على تذوّق «قهوة يبرود، لان ما في منّا». يبدأ أبو أديب فوراً بشتم المعارضة والمسلحين ويحيي الجيش السوري، «الابطال، هدول نحنا بحمايتهم وما فلينا، وما خيبوا أملنا». تدعمه أم أديب أيضاً بالشتائم. «ما كنّا نتعاطا مع حدا ولا حدا يتعاطا معنا، كنا عارفين إنو الجيش رح يرجع يفوت، فاتحملنا وضلينا»، تضيف.
وكيف تمكنّا من احتمال الحصار؟: «المونة تكفي مدة شهر أيضاً».
على بعد أمتار منهما، جارهما المسن هشام. يعيش مع زوجته. «زوجتي مريضة ونحنا باركين، وين بدنا نروح»، يقول بصوت خافت. رغم حركته الثقيلة، يحمل ابريق الشاي وعدداً من الفناجين الصغيرة ويجول على الصحافيين. ثم يسأل من يملك هاتفاً للاطمئنان إلى ولده الذي يدرس في دير عطية. «بدّي بس طمّنو انو نحنا مناح لان صرلو كم يوم ما سمع منّا شي». أبى هشام هو أيضاً الرحيل عن مدينته، لم يحتك بأحد، «يمكن كانوا يضيّقوا على غيرنا، بس نحنا شو بدن فينا». وقبل أن يودّعنا للاطمئنان إلى زوجته، «ما فيني اتركا كتير لحالا»، يقول «ما منخاف من الموت، ولدت بسوريا وبموت فيها».