نضال عبد العالكنت أهمّ بالخروج حين علا الصراخ بين الجانبين. تريثت لأتابع السجال إلى آخره، فجلست أستمع بانتباه لأفهم ما الذي أجّج الخلاف إلى درجة نشوب مشادة كلامية، لم تخلُ من قدح أو ذم بين جيلين. كانا يجلسان على قارعة الطريق، أمام محل تجاري صدف أنني كنت أقصده لشراء بعض الحاجات. شابان يجلسان في ناحية، ورجل مسن يتجاوز عمره السبعين عاماً، يُعتبر من وجهاء المخيم، في الناحية الأخرى. يبادر الشاب بالقول: إن مساحة الأرض هذه كانت ملعباً لكرة القدم قبل تدمير مخيم نهر البارد، ويجب أن تعود كما كانت عليه متنفساً لشباب المخيم ولأنديته.

يحاجج الرجل المسن بأن مساحة الأرض هذه «اشترتها منظمة التحرير الفلسطينية كمقبرة، حين ضاقت المقبرة القديمة بساكنيها، ونحن الآن لا نعرف أين ندفن موتانا، نحتار بين القديمة التي امتلأت حتى آخرها وبين الجديدة «مقبرة خالد ابن الوليد» التي ضاقت هي الأخرى بساكنيها، بينما مقبرة «الشهداء الخمسة» قد تقفل أبوابها أمام زوارها خلال أشهر مقبلة».
هذه المساحة من الأرض التي كانت سبب السجال والتوتر بين الشابين والمسن، تقع شمال مخيم نهر البارد عند شاطئ البحر، خلف مقبرة الشهداء الخمسة، وهي لمنظمة التحرير الفلسطينية لكنها مسجلة بأسماء لبنانيين وكلاء كما حصل لكثير من أملاك منظمة التحرير في لبنان، نظراً إلى أن الأحزاب كانت ممنوعة من التملك. ولقد وضعت السلطات اللبنانية يدها عليها، ولم تسلّمها إلى الجهات الفلسطينية المعنية. فهذه الجهات هي من يقرّر ما هو الأهم : الملاعب أم المقبرة؟ هذا النقاش كان يجتاح المخيم، ويجري بين الشباب وأنديته الرياضية من جهة، وفاعليات ومشايخ من جهة أخرى. أما اللجان الشعبية فتقف في الوسط، لأنها في حيرة من أمرها. فالأرض لم تُسلّم بعد لها، ومن ناحية أخرى يسوق الطرفان حججاً ومبررات مقنعة.
يرى شباب المخيم وأنديته أن الاهتمام بالمستقبل يحتم علينا الاهتمام بالشباب ورعاية مهاراته وتشجيع مواهبه، وبالتالي فإن الأهم أن تكون الأرض مكاناً لملعب كرة القدم. في حين يرى الطرف المقابل أن حفظ الكرامة الإنسانية يحتم علينا أن نحفظ كرامة كل إنسان في مستقبل لابد ملاقيه، في مثوى كريم.
فتح هذا النقاش الغريب كوة في رأسي، ثمة سجال يجري بين جيلين، صحيح أنه يدور حول موضوع محدّد، لكنه يحمل دلالات كثيرة. فكل طرف ينظر إلى المستقبل من زاوية محددة وفقاً لموقعه وعمره ومعاناته، ويصعب على كل طرف أن يقف مكان الآخر ليكتشف وجاهة موقفه.
أفهم تماماً ما قصده الشباب. فالملعب موضوع غاية في الأهمية، وهو ضرورة ملحة لتنمية مهاراته ومواهبه الرياضية، ويحلّ مشكلة كبيرة فنية ومادية. إذ إن استئجار أي ملعب صغير لساعة، يحتاج إلى مساهمة من كل لاعب 10 آلاف ليرة لبنانية (ما يقارب سبع دولارات)، وفي بعض الأحيان أكثر . أي إن لعب ساعة سيكلف كل فريق ما يوازي 100000 ليرة لبنانية، وهذا عبء مالي كبير. قد يكون هذا المبلغ يومية عاملين، وسيفكّر كثيراً أي شاب قبل دفعه.
أما تكلفة كل مباراة رسمية في ملعب بالقياسات الرياضية الرسمية خارج المخيم؟ فستكون بأرقام مضاعفة.
إن وجود الملعب هو حاجة مهمة وهو متنفس سيسهم في معالجة جزء ولو يسير من الأمراض الاجتماعية التي تغزو الشباب هذه الأيام، فحرمانه من ممارسة هواياته تسهم بدورها في مخاطر انحرافه نحو عادات سيئة وخطرة في ظل بطالة مرتفعة ومرعبة.
يمكن سوق الكثير من المبرّرات التي تدعم أهمية أن تكون هذه الأرض ملعباً لكرة القدم، ولكن ما إن تقف في الجهة المقابلة لترى ما يراه الكبار، فإنك ستكون متفهماً أيضاً لدوافعهم.
حيث إنهم ومع اقتراب افتراضي للنهاية المحتومة، سيعيشون في قلق إيجاد حفنة تراب تحتضنهم. وحين تفتقد للعيش الكريم فإن الموت بكرامة سيكون هاجسك وأمنيتك الوحيدة ربما.
قد يكون هذا الكلام وجدانياً، لكنه بالنسبة إلى الفلسطيني في لبنان تفاصيل حياة يومية، فلكل شخص قصصه التي لو أراد أن يرويها لأخبرنا حكاية لا تقلّ غرابة عن حكاية أبو غازي.
يوم ضاقت المقبرة القديمة بضيوفها وكانت السلطات اللبنانية تعقد أمر تسليم أرض مقبرة الشهداء الخمسة، كنت تسمع تعليقات أهل المخيم الساخرة : «يلا انشاء الله يعرف عزرائيل انو فش محل للدفن ويوخد اجازة»! بينما علق آخرون «خلينا نلحق حالنا قبل ما يبطل في محل».
لم يتمكن ابو غازي من تسجيل قبره باسمه لأنه فلسطيني، ولا يتمتع بحق التملك في لبنان، حتى لو كان قبراً، هكذا اضطر ابو غازي لتسجيل قبره باسم.. صديق لبناني!
«يغتصب» ابو غازي الآن، قطعة أرض متر عرض ومترين طول! وربما يكون أيضاً متهماً بانتحال شخصية! هو الذي أنشد دوماً «بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان» وهو المناضل الكبير وأحد مؤسسي حركة القوميين العرب، كان حلمه أن يموت ويُدفن في فلسطين، طالما تمنى ذلك وناضل حتى آخر نبض في عروقه لكي يكون له في الأرض ثرى لشهيد.




في مخيم البارد الكثير من الأندية. هي تزيد على 15 فريقاً لكرة القدم ومئات اللاعبين من مختلف الأعمار والمستويات. ولمخيم نهر البارد تاريخ رياضي يفتخر به، وقدم عدداً من لاعبيه للأندية اللبنانية كمحترفين وعدداً آخر لمنتخب فلسطين الوطني الرسمي.
إلا أن مشكلة المساحة وكلفة المباريات، كانت سبباً في فرط عدد من الأندية والفرق الرياضية الفلسطينية التي لا تتلقى دعماً جدياً من أي مصدر كان، وتعتمد فقط على اشتراكات لاعبيها، كذلك الكلفة وغيرها من حاجات الفرق، سيحولها إلى أندية تابعة لهذه الجهة او تلك، وليست مستقلة ذات دور رياضي حقيقي.