كل مقاربة لأيّ من متفرعات القضية الفلسطينية تتحدّد مساراتها وفق الرؤية التي تنطلق منها، فمن يتعامل معها كعبء ينبغي التخلص منه بأي ثمن سيكون منطقه وموقفه بما يحقق هدفه، بل يتحول كيان العدو لديه إلى حليف ومصالح مشتركة. أما من يرى أن الأمر ليس إلا خلافات حدودية، فسيكون أسير معادلات التسوية التي ظهرت نتائجها. وجراء ما تتعرض له فلسطين من مخططات لمسخها، يصير ضرورياً إعادة تأكيد أن قضية فلسطين هي قضية شعب وقع ضحية مشروع استعماري استيطاني، وتخاذل عربي، بهدف إقامة وتوسيع كيان يسعى إلى تجميع يهود العالم بدلاً من السكان الأصليين. ويرتكز هذا المشروع إلى شعار «شعب بلا أرض لأرض بلا شعب»، وصولاً إلى إقامة «إسرائيل الكبرى» التي تتحدد حدودها حيث «تصل أقدام جنودها». كما لا تقلّ أهمية إعادة تأكيد البعد الوظيفي لهذا الكيان، فهو موقع متقدم للاستعمار الغربي الذي يعمل على تكريس هيمنته لمنع نهوض المنطقة، ولاستمرار نهبه، مع الإشارة إلى أن هذا الدور لا ينكره أيّ من مؤسسي الكيان ولا قادته الحاليين، وإن عبّروا عن ذلك بعبارات أقلّ حدة.لم يبلغ العدو ما بلغه حتى الآن دفعة واحدة، ولم يكن نجاحه أمراً مسلّماً بل واجه تحديات كبيرة، فكان يمكن لما نجح أن يفشل، وما فشل أن ينجح، لكن النتائج تحققت وفق ما واجهه من تصميم وتدبير مضاد، واستعداد على المواجهة مهما غلت التضحيات. بنظرة عابرة إلى تاريخ الحركة الصهيونية، بدأ مسلسل «إنجازاتها» منذ المستوطنة الأولى تحت حماية الاحتلال البريطاني، بل قبل ذلك، وقد تراكم وصولاً إلى تحوّله إلى واقع ديموغرافي يمكن الاستناد إليه لإنشاء كيان دولتي. مرَّ هذا المسار بمحطات أبرزها قرار التقسيم عام 1947 الذي منح الصهاينة 54% من فلسطين، ثم السيطرة على 78% نتيجة حرب 1948، فالتوسع عام 1967. أما «الضم القانوني»، فبدأ بالقدس عام 1967، وصولاً إلى شرقي القدس والجولان، والآن دور الضفة بما يتناسب مع الواقع الديموغرافي والسياسي الذي تحدّدت مساحته وفق رؤية دونالد ترامب بـ30% منها. وفي المقابل، واجهت «منظمة التحرير الفلسطينية» المشروع الصهيوني باستراتيجية تنازلية، فانطلقت من «تحرير فلسطين»، ثم «إقامة الدولة الديمقراطية على كل فلسطين» بعد هزيمة المشروع الصهيوني، ثم إقامة الدولة على أراضي 67، ثم إقامة سلطة بناءً على رهان لتحوّلها إلى دولة (تبين فشل ذلك)، ثم تحوَّل الحفاظ على هذه السلطة إلى هدف قائم، والمطلوب منها أميركياً وإسرائيلياً أن توافق على الضم، أي أن توافق على التوسع الصهيوني وشرعنته فلسطينياً.
يندرج الضمّ ضمن التهويد، لكن هذه المرة من البوّابة القانونية


أما ما يُسمى خلافات أميركية ــ إسرائيلية، أو إسرائيلية ــ إسرائيلية، حول الضم، فليست إلا في تقدير التداعيات، وإلا فهم متفقون على المبدأ بل على أن كل الضفة ملك للصهاينة، لكن الظروف تحول دون ضمها كاملة. وإن كان هناك مستوى من التردد في تحديد حدود الضم وطريقة تنفيذه، فهو ناتج عن المخاوف من التداعيات. لذلك، تحضر بعض الرسائل الأساسية التي ينطوي عليها مشروع الضم. بداية، ينبغي ألا يغيب عن البال أن الاحتلال قائم مع الضم ودونه منذ عشرات السنوات. ومن هذه الزاوية، لا يُغير إعلان الضم شيئاً، لكن التغيير الذي يمكن أن يترتب عليه هو من جوانب أخرى، فهو تنفيذ لطموحات صهيونية يرفع رايتها في هذه المرحلة معسكر اليمين انطلاقاً من تقديره أن الظروف العربية والدولية (الأميركية تحديداً) تسمح بتنفيذ هذه الخطة. ولهذا، يشكل إعلان الضم خطوة متقدمة لدفع العالم وبعض الفلسطينيين إلى التكيّف مع الواقع المفروض وإجبارهم على التفاوض على أساس «صفقة القرن»، ويعني ذلك أيضاً أن الضفة لن تكون جزءاً من أي كيان سياسي فلسطيني مفترض (ضمن التسوية). كما يراد حشر الفلسطينيين وتسليمهم بالواقع بل إضفاء قدر من الشرعية (الفلسطينية) عليه، ما يعني أن الضم جزء من خطة أوسع تستهدف تصفية القضية.
أيضاً يندرج الضم ضمن التهويد، لكن هذه المرة من البوابة القانونية التي تفتح الأبواب على مسارات تهويد أخرى. فتغيير الوضع القانوني يعني تغيير قوانين ملكية الأراضي فيها بجعلها «إسرائيلية»، إضافة إلى منع سكان الضفة وغزة من دخولها إلا بتصاريح إسرائيلية. ينبغي التذكير هنا بسابقة ضمّ القرى المحيطة بالقدس بعد احتلالها عام 1967، عندما ضمت الأراضي التي تتبع لكل قرية وبلدية إلى «بلدية القدس»، فتحولت القرى إلى أحياء في المدينة، وأراضيها إلى أراضي بلدية الاحتلال، وهو الأمر الذي سينسحب على الأراضي والقرى المضمومة حديثاً. في الخلاصة، سيتبلور في تلك المناطق قانونان: واحد يتعامل مع اليهود الصهاينة وآخر مع الفلسطينيين. وفي ما يتعلق بمصير الفلسطينيين الذين يقطنون هذه المناطق، من المسلَّم أن إسرائيل لن تمنحهم جنسيتها. في مواجهة ذلك، يكمن التحدي الجوهري أمام الشعب الفلسطيني وفصائله، المقاومة وغير المقاوِمة، في تحديد ماذا يريدون على المدَيين المباشر والبعيد، وكيف يمكن تحقيق ذلك. والإطار العام الذي يحكم أي خيار هو أن تكون مواجهة الضم جزءاً من استراتيجية أوسع تهدف إلى مقاومة الاحتلال (مع أو من دون ضم). من المسلّم أنه لا يمكن أن يكون النهج الذي أضاع فلسطين، ويهدد ما تبقّى منها، هو نفسه الطريق إلى إنقاذها. وما هو أشد تهديداً من الاحتلال هو سعي كثيرين في فلسطين والمنطقة والعالم إلى بثّ روح اليأس في صفوف هذا الشعب كي لا يرى الجانب المضيء من تطورات البيئة الإقليمية بما تنطوي عليه من عناصر قوة وفرص (إلى جانب الجانب المظلم منها) تؤسِّس لمعادلات جديدة تشقّ الطريق إلى فلسطين.