سوريا: آذار رابع... ولا ربيع | ريف دمشق | تهدي امرأة مسنّة «حبّة» تين لمجنّد سوري، على أحد الحواجز في ريف دمشق الجنوبي، فيقبل الهديّة بامتنان وحسرة، ويقول بلهجة قروية: «هذا الزمان حرمني أكلَ مثل هذه الثمرة من شجرة في بستان بيتنا. أنا كان لازم أتسرّح من سنتين!». تردّ بالقول: «الله يرجعك لأمّك سالم». جرت تلك المحادثة في الصيف الماضي، واليوم يكون قد مضى على احتفاظ الجيش بهذا المجنّد عامان ونصف عام، يضافان إلى عامي الخدمة الإلزامية.
لم تسرّح قيادة الجيش السوري معظم المجنّدين، باستثناء المصابين أثناء الحرب، منذ بداية الأحداث. قبلها كان الاحتفاظ بالمجنّدين يجري لمدّة لا تتجاوز الشهر، ويطبّق فقط في حالات الاستنفار الناجمة عن وضع سياسي أو عسكري، مثل حرب تموز 2006، وحرب غزة 2008، أو في لحظات احتدام السجال السياسي والتوتّر الأمني بين دمشق والعواصم الغربية أو الكيان الصهيوني في أوقات مختلفة.
البعض مكث في الخدمة الإلزامية أكثر من خمس سنوات حتّى الآن، نصفها في حالة حرب و«استنفار مئة بالمئة»، بحسب التعبير العسكري الشائع في الجيش، الذي يعني ضرورة بقاء المستنفرين على رأس أعمالهم، الميدانية والإدارية، 24 ساعة كاملة في اليوم، تتخلّلها بضع ساعات للنوم وتناول الطعام في مكان العمل، الذي قد يكون بدوره جبهة قتالية أو حاجزاً عسكرياً، أو إدارة تابعة للقوات المسلّحة. والحال ذاتها تنطبق على الضباط، من حيث المبدأ، ولكن يؤخذ وضعهم العائلي والعمري في الاعتبار. أمّا المتطوعون في الجيش، أي الموظّفون العسكريون، فيراوح الاستنفار المطبّق عليهم بين الخمسين والمئة في المئة. يقول ضابط في الجيش السوري لـ«الأخبار»: «هذا هو الوضع الطبيعي في حالة الحرب. أمّا في الحرب الشاملة، فيطبّق وضع النفير العام، الذي يفرض على كلّ من يحمل السلاح حمله دفاعاً عن الوطن». ولكن «طبيعة الحرب الراهنة، كحرب مدن وعصابات، لا تتطلّب عدداً كبيراً من المقاتلين». واليوم ترفد الجيش والقوات المسلّحة تشكيلات عسكرية جديدة كـ«جيش الدفاع الوطني» الذي تشكّل من مدنيين قدمت لهم الدولة السلاح للدفاع عن مناطقهم.
جاءت ضرورة الاحتفاظ بالمجندين نتيجة انخفاض معدّل الالتحاق بالخدمة الإلزامية، خلال الأعوام الثلاثة الماضية، بسبب التحولات التي أصابت المجتمع السوري، وبالأخص في المناطق المتوترة التي شهدت موجات نزوح كبرى. يشرح موظف في شعبة تجنيد المنطقة الشرقية، وتشمل دير الزور والرقة والحسكة، التي أصبح مقرّها في دمشق بسبب الوضع المتوتر هناك، وضع التجنيد الإلزامي في منطقة الميادين في دير الزور، على سبيل المثال: «سنوياً كان يجري تجنيد نحو تسعة آلاف شخص، في الميادين والمناطق المحيطة بها، أما خلال السنتين الماضيتين، فلم يلتحق سوى العشرات». والسبب «هو سيطرة المسلّحين على تلك المنطقة»، والحال ينطبق على الرقّة، التي يسيطر عليها «داعش»، والحسكة التي انخرط أبناؤها في «وحدات حماية الشعب» الكردية، بسبب خصوصية تلك المنطقة. وبحسب المتابعين، تضاف أسباب أخرى إلى مسألة الاحتفاظ، مثل ذهاب عشرات آلاف الضحايا من السوريين في الحرب الدائرة في سوريا، خلال السنوات الثلاث الماضية، معظمهم من الذكور، بالإضافة إلى «الانشقاقات» التي لا توجد إحصائيات دقيقة توثّق أعدادها في المؤسّسة العسكرية حتّى الآن.
تكيّف الكثير من العسكريين مع طول أمد الحرب؛ ففي النقاط التي تمرّكزوا فيها، بنوا أكواخاً صغيرة، وأوصلوا الكهرباء إليها، ومع مرور الزمن، تحولوا إلى شبه سكان في المناطق التي وضعوا رحالهم فيها. إلا أن الحنين إلى الحياة المدنية يعاود الكثير منهم. يعدّد أحمد سيفو، الجندي في الجيش، ذكريات وأحلاماً كثيرة لا تبرح وجدانه: الحنين إلى الأهل، مشروع الزواج وإنجاب الأطفال، التنعّم بطيب قريته الواقعة في ريف حلب الغربي، ولكن «العزيمة لا تلين، ونحن أينما حللنا لم نتغرّب. إلا أن التفكير بأن هذا الواقع سيطول، يبعث على الحزن، علينا وعلى الوطن». البعض من المجنّدين، المحتفظ بهم، يعانون واقعاً أصعب، ليس لكونهم على الجبهات مباشرةً، بل لأنهم لا يزالون «بعيدين عن الجو العام» للبلاد. رامي رفاعي مجنّد في كتيبة تجاوز تعدادها الأربعين مقاتلاً، تتمرّكز في جبل الشيخ في موقع بعيد عن القرى والبلدات في تلك المنطقة، ولم تشارك في أي مواجهة حتّى الآن.
يقول رامي لـ«الأخبار»: «نحن بعيدون هنا عن العالم من حولنا، فيما الجبهات تشتعل في مدن وبلدات معظمنا، ممن بقي هنا منذ نحو أربع سنوات».
تحدّث بعض الجنود لـ«الأخبار» عن حالات تسمّى في الجيش «تشكيل فرار»، وتعني هروب المجنّد من مكان خدمته، غالباً إلى مناطق تقع خارج سيطرة الدولة، وأحياناً إلى خارج البلاد. وهذه الظاهرة تختلف عن الانشقاقات، التي باتت شبه معدومة، بحسب المتابعين، لكون كلّ عسكري خدم في الجيش السوري هو بالنسبة إلى المسلّحين هدفاً مباشراً، وإذا ما قبل بعض المسلّحين بانشقاق أحد الجنود، فإن آخرين كثر سيرفضون ذلك، ويواصلون ملاحقته كجندي كان في عداد الجيش.
أحد الفارين من الخدمة الإلزامية كان «شابّاً من الرقة، بنيته البدنية ضعيفة. وبعد إلحاحه على والده ليقوم بزيارته. جاء الوالد، وحصل له على إجازة 24 ساعة، اختفى بعدها الاثنان»، ليتبيّن لاحقاً «أن والده جلب معه البطاقة الشخصية الخاصة بأخيه، الذي يشبهه كثيراً، وبواسطتها تمكّن من المرور على حواجز الجيش، ومن ثم على حواجز المسلّحين، على الطريق الممتدّة من دمشق إلى الرقة»، يروي أحد زملائه.