تندفع الحوادث بالنذر إلى حافة صدامات محتملة على محورَين استراتيجيين متباعدين في أزمتَي «سدّ النهضة» الأثيوبي دفاعاً عن الحق في المياه شريان الحياة في مصر، أو خشية الإضرار الفادح بالأمن القومي إذا ما تمركزت جماعات عنف وإرهاب عند الحدود الغربية مع ليبيا. بتوقيت واحد، وصلت الأزمتان المتفاقمتان إلى تخوم الصدامات المحتملة. وبينما يستبعد العمل المسلّح كخيار مفضّل بأي حساب، لكنّه قد يكون خياراً أخيراً، إذا ما سُدّت الأبواب والنوافذ أمام أية حلول سياسية، وبدا البلد مهدّداً في صميم وجوده وأمنه ومستقبله. في أزمة «سدّ النهضة»، تعترض العمل المسلّح تعقيدات لا نهاية لها تضرّ بصورة البلد ومصالحه في القارة الأفريقية، وتُخضعه لضغوطات دولية هو في غنى عنها، وتخصم بفداحة من أية احتمالات بالمستقبل لبناء علاقات طبيعية ومستدامة على أساس التعاون المشترك بين دول حوض النيل. هذا كلّه صحيح، لكن يستحيل تقبّل الموت عطشاً بالرضى، أو بالصمت، أو بقلّة الحيلة، إذا ما تهدّد البلد في وجوده بشحّ مائي يفضي إلى «تبوير» ملايين الأفدنة والعجز عن توفير الاحتياجات الغذائية لمواطنيه. فبحسب بعض التقديرات، فإنّ الفجوة الغذائية قد تصل إلى 40 مليار دولار سنوياً.
لم تكن هناك مشكلة في التوصّل إلى اتفاق ملزم وعادل ومنصف، وفق القوانين الدولية، يكفل لأثيوبيا حقّها المشروع في التنمية والكهرباء ويضمن لدولتَي المصب مصر والسودان حقّهما في المياه والحياة، غير أنّ أثيوبيا ماطلت في التوصّل إلى مثل هذا الاتفاق، على مدى سنوات طويلة من التفاوض وإعادة التفاوض على ما جرى التفاوض عليه، كأنّه استهلاك وقت متعمّد حتى يستكمل السدّ ويُملأ خزانه وتوضع مصر والسودان أمام الأمر الواقع.
هكذا أخفقت أخيراً الوساطة الأفريقية في حلحلة المفاوضات المارثونية. كان ذلك متوقّعاً بالنظر إلى أسلوب التفاوض الأثيوبي، الذي يكاد يتماهى مع أسلوب التفاوض الإسرائيلي في العودة إلى المربع الأول مرة بعد أخرى، كلّما بدا أن هناك تقدماً ما. لم يكن ذلك تعنّتاً، أو غياباً لـ«الإرادة السياسية»، على ما دأبت وزارة الخارجية المصرية على وصف الأداء التفاوضي الأثيوبي، بقدر ما كان تعبيراً عن إرادة سياسية واضحة ومستقرّة في السيطرة على نهر النيل الأزرق، كأنّه نهر أثيوبي لا دولي، والتحكّم في حصصه وموارده، منحاً ومنعاً، من دون اتفاقيات موقّعة وملزمة.
هناك فرصة أخيرة لوقف الاندفاع الحتمي، لا الاختياري، إلى العمل العسكري أيّاً كانت عواقبه، فـ«ليست بعد الروح روح» كما يقول المصريون، إذا ما أمكن للقمة الأفريقية المصغّرة المنتظرة أن تصل إلى شيء ما ممسوك يمنع ملء خزان السد قبل التوصل إلى اتفاق ملزم. في القمة المصغّرة الأولى، بدا الهدف منها تطويق ما قد يترتّب على اجتماع مجلس الأمن الدولي من نتائج، بعدما نجحت الدبلوماسية المصرية في تعريف الأزمة كتهديد للأمن والسلم الدوليين.
قيل إنّ البيت الأفريقي هو الفضاء المناسب لحلّ الأزمة، وراهنت أثيوبيا على أنّ جنوب أفريقيا، الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي، متفهّمة لها وقريبة من موقفها.
لا يوجد ما يؤشر إلى أن الفرصة الأخيرة سوف تفضي إلى اتفاق، لكن يتعيّن الانتظار حتى يستبين للعالم كلّه عدالة القضية المصرية. وهنا، لا بدّ أن نعترف أنّنا لم نعرض قضيّتنا العادلة على الرأي العام العالمي بما تستحقه من دأب واهتمام وشرح وإيضاح لحجم الأضرار التي قد تلحق بنا، فيما نجحت أثيوبيا في أن تضفي على نفسها صفة المظلومية، فشعبها فقير وتفتقد أغلبيته إلى إنارة منازلها بالكهرباء، كأنّ مصر تتحمّل مسؤولية ما تعانيه من فقر مدقع وصراعات عرقية متفاقمة.
بتلخيص آخر لطبيعة أزمة «سد النهضة»، فإنها صدامات إرادات وشرعيات. بالنسبة إلى الأثيوبيين، هي نقطة الإجماع الوحيدة بين المكوّنات العرقية والتناقضات السياسية، واصطناع «عدو» من خارج الحدود من مستوجبات الاستقرار الداخلي الهشّ. أما بالنسبة إلى المصريين، فإنّ الحفاظ على مياه النيل منذ الحضارة الفرعونية مسألة شرعية حكم وضرورات حياة. إذا ما تناقضت الاعتبارات إلى حدّ الاستخفاف بالوجود المصري نفسه، فلا يمكن استبعاد العمل العسكري. فالاستخفاف بحق الحياة، «إعلان حرب» لا يملك أحد هنا في مصر أن يمانع في إعلان حرب مضاد. سوف يكون العمل المسلّح إجبارياً، بغضّ النظر عن النوايا والإرادات والحسابات والمحاذير، إلّا إذا توافرت ضغوط دولية تردع أثيوبيا في الساعات القليلة المقبلة.
ولكن ممّا يعقّد حسابات اللحظة الحرجة والمعقّدة أساساً، أنّ تدخلاً عسكرياً آخر قد يحدث في ليبيا في أي وقت، بعدما أجاز مجلس النواب الليبي لمصر التدخّل عسكرياً «إذا رأت أن هناك خطراً وشيكاً يطاول أمن بلدينا» ـــــــ بنص بيان رسمي صدر الاثنين الماضي. وفي اليوم نفسه، صرّح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، بأنه ليس من مصلحة «حكومة الوفاق» وقف إطلاق النار، قبل السيطرة على مدينة سرت الساحلية والقاعدة الجوية في الجفرة. «إذا لم يحدث انسحاب، فإنّ هناك عملية عسكرية مؤكدة». الموقفان المتناقضان يفتحان المجال أمام اشتباكات وشيكة، إذا ما اقتُحمت سرت، أو بدا أنها مرشحة للسقوط، ما يعني أنّ التدخل المصري سوف يكون محتماً.
بالنسبة إلى تركيا، يُعتبر موقع سرت الاستراتيجي بالقرب من الهلال النفطي، جائزة كبرى. وإذا ما أقرّت بالخط الأحمر المصري عند سرت والجفرة، فإنّها هزيمة حقيقية لسياساتها في ليبيا ممتدّة إلى الصراع على غاز شرق المتوسط، وإذا ما تجاوزته بالسلاح فإنها الحرب يقيناً.
في التوقيت، هناك ما يؤشّر إلى قرب بدء معركة سرت من تحشيدٍ عسكري، قد تكون من أهدافه الضغط على القوى الدولية للعمل على انسحاب القوات الموالية للمشير خليفة حفتر بلا قتال. تلوّح تركيا بالقوة، وتؤكد في الوقت نفسه استعدادها لوقف إطلاق النار، ثم تعود لتضع اشتراطات، كأنها مناورة على الحافة وعينها على النفط قبل أي شيء آخر. كذلك، كانت الشروط التي وضعتها قوات حفتر لإعادة ضخّ البترول، ومن بينها عدالة توزيع عوائده وإخضاعه لرقابة دولية محايدة، داعياً إضافياً للتوتر التركي والقوات الموالية لها المحتشدة حول سرت.
وفي التوقيت، فإنّ اتساع نطاق الأزمات المعلنة والمكتومة بين روسيا وتركيا من جهة، والاتحاد الأوروبي وتركيا من جهة أخرى، يدفع للاعتقاد بأنّ الأزمة الليبية تكاد أن تكون ساحة مختارة لاختبارات القوة والنفوذ والمصالح والأوزان. وباستثناء الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يكاد أردوغان أن يقف وحيداً.
من جهة أخرى، تكاد أزمة «آيا صوفيا» تلخّص الحسابات السياسية التركية الحالية، فالأزمة بجوهرها سياسية لا دينية. ومن دواعي إثارتها، الآن، إعادة ترميم شعبيته في الداخل واكتساب نقاط إضافية داخل تيار الإسلام السياسي، باعتباره الرجل المؤتمن على الدين وخليفة المسلمين الجديد، الذي أعاد متحف «آيا صوفيا» إلى صورته التي كان عليها قبل ستة قرون عند فتح اسطنبول وتحويله من كنيسة إلى مسجد.
في معركة الصورة، حاول خلع عباءة مصطفى كمال أتاتورك، مؤسّس تركيا العلمانية الحديثة، أو قتله في الذاكرة، وارتداء عباءة السلطان محمد الفاتح، في رسالة إلى دوره المستجد، أو وما يتطلّع إليه مستخدماً لغة السلاح على أكثر من جبهة.
في أجواء محمّلة بالنذر لا يمكن استبعاد سيناريو الصدام في الأزمتين مع أثيوبيا وتركيا. هذه مهمّة ثقيلة تستدعي ضبط الأعصاب والتصرّفات، بقدر ما هو ممكن حتى تكتسب شرعيتها وعدالتها.
* كاتب وصحافي مصري