لا تبدو أحوال «أسبرطة الصغيرة» على ما يُرام. دخان «مسبار الأمل» الإماراتي، الذي انطلق قبل يومين إلى «الكوكب الأحمر»، لا يكاد يحجب حقيقة ما تكابده الدولة التي راق الأميركيين يوماً تشبيهها بـ»Sparta»، المدينة اليونانية الذائعة الصيت في القوة. أراد محمد بن زايد، الذي سرّه تصويره - ضمناً - في صورة القائد الأسبرطي أوريبادس (بطلِ الانتصار اليوناني على الجيوش الفارسية)، أن يكون العام 2020 عاماً تأسيسياً لبلوغ بلاده يوبيلها الذهبي في 2021، تمهيداً لأن «تصبح واحدة من أفضل دول العالم بحلول الذكرى المئوية لقيامها في عام 2071»، كما أعلن ابن زايد أواخر سنة 2019. لكن المفاجآت التي حملتها السنة الـ49 من عمر الدولة الوليدة لم تطابق حسابات «الشيخ»، الذي - لسوء الحظّ - كان ألهم «الأمير» السعودي رؤيته المسمّاة «رؤية 2030».منذ ما قبل ظهور وباء «كورونا»، الذي فاقمت تداعياتِه على الاقتصادات الخليجية حربُ أسعار النفط السعودية - الروسية، بدا أن الاقتصاد الإماراتي يئنّ تحت وطأة أزمات متلاحقة، تجلّت تأثيراتها - خصوصاً - في تراجع نسبة النموّ الذي لم يتجاوز 2.9% في عام 2019، بعدما كان متوقّعاً بلوغه في العام نفسه أكثر من 3.5%، بحسب البنك المركزي الإماراتي. هذا ما دفع خبراء ومحلّلين اقتصاديين إلى اعتبار الجائحة «القشّة التي قصمت ظهر البعير»، والتي ربما تتطلّب معالجة آثارها سنوات لا أشهراً؛ إذ إن «مجموع كلّ الأزمات التي واجهناها سابقاً لا يعادل ما نعيشه اليوم»، على حدّ تعبير رئيس مجلس إدارة شركة «طيران الإمارات»، تيم كلارك.
وفقاً لوكالة «موديز» للتصنيف الائتماني، سيعاني اقتصاد الإمارات انكماشاً حادّاً في العام الجاري، قدّره «صندوق النقد الدولي» بحوالى 3.5%. وإذا كانت «الصدمة كبيرة» لعموم البنى الاقتصادية في البلاد، إلا أن وقعها يظهر أشدّ على إمارة دبي، المثقلة بديون متراكمة منذ عام 2009 لا تقلّ عن 135 مليار دولار، والواقعة أصلاً في شباك أزمة اقتصادية طالت خصوصاً قطاع العقارات الذي انخفضت قيمته حوالى 30% منذ عام 2014. ولعلّ أحد أبرز تجلّيات حالة الاختناق المتفاقمة اليوم في دبي، تأجيل معرض «إكسبو 2020» الذي خُطّط لاجتذاب ما لا يقلّ عن 25 مليون سائح من خلاله.
يتهدّد الخطر الاستثمارات الخارجية الإماراتية الممتدّة من اليمن إلى أفريقيا


كان بإمكان محمد بن زايد أن يضحك في سرّه لِما يصيب «الشقيقة الصغرى»، وأن يجد في «كورونا» فرصته ليعزّز سطوته السياسية عليها مقابل استنقاذها من أزمتها، مثلما حصل في عام 2009 عندما ضخّت أبو ظبي في اقتصاد دبي قرابة 20 مليار دولار، جاء «تقريشها» السياسي في السنوات اللاحقة في صورة خضوع (خرقه بعض الاستثناءات) لإرادة العاصمة، خصوصاً إزاء الملفات الخارجية. إلا أن المصيبة هذه المرّة تجمع عيال زايد وعيال راشد على السواء، إذ إن انهيار أسعار النفط من شأنه أن يُسبّب الكثير من المتاعب لأبو ظبي، التي تتركّز الكيانات المرتبطة بحكومتها في قطاع الهيدروكربونات. وهي متاعب سرعان ما بدأ ظهورها في نيسان/ أبريل الماضي، مع التحاق الإمارة بنادي المقترضين من السوق الدولية، بإصدارها سندات سيادية بقيمة 7 مليارات دولار.
على أن الصعوبات المالية ليست وحدها ما يقلق ولي عهد أبو ظبي. إلى جانبها أيضاً الخطر المحدق بالاستثمارات الخارجية الممتدّة من اليمن إلى أفريقيا، والذي لا يبدو أن الحليف الأميركي يعيره كبير اهتمام. بعد مرور قرابة 4 سنوات على انخراطها في الحرب على اليمن، تفطّنت أبو ظبي إلى فداحة الخسارة التي ستتكبّدها في حال استمرار هجمات حركة «أنصار الله» عليها، أو حتى على شقيقاتها، وخصوصاً منها دبي؛ فكان قرار الانسحاب من الجبهات، مع إبقاء الدعم - بمختلف وجوهه - للوكلاء في الجنوب وعلى الساحل الغربي. إلا أن هذه الحيلة لم تَحُل دون بروز تهديد آخر متمثل في تعميق التدخل التركي - القطري، واقترابه من مناطق نفوذ الإمارات، في ظلّ تخبّط سعودي في إدارة كلّ تلك التناقضات. وإذا كانت اللعبة لا تزال مضبوطة في اليمن، إلا أنها باتت مختلّة بوضوح في ليبيا، حيث لم يتمكّن الدعم الإماراتي اللامحدود للواء المتقاعد خليفة حفتر من إعلاء كفّته في الميدان، بل ولم تمنع سلبه إنجازات كان حقّقها سابقاً وإرجاعه وقواته إلى خطّ سرت - الجفرة (مع ذلك، ستكون الإمارات مصدر تمويل أيّ حملة عسكرية مصرية في هذا البلد).
وحده ملف التطبيع مع إسرائيل تظهر فيه أبو ظبي صاحبة السهم الأعلى، لكن حتى في هذا الجانب لا يبدو أن لدى تل أبيب أوهاماً في شأن مدى قدرة الإماراتيين على فرض أجندتهم في المنطقة. وفي الإطار المتقدم، يمكن إيراد ما كتبته صحيفة «إسرائيل هيوم»، تعليقاً على مقالة السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، حيث اعتبرت أنه «في موضوع المصالح المتبادلة، الجانب الأقوى هو إسرائيل وليس الإمارات»، متسائلة: «مَن يعتقد العتيبة أنه يخشى تهديداته، فيما يبيع النفط بسعر 37 دولاراً للبرميل؟».
في ما يُنقل عن سقراط في شأن أسبارطة اليونانية، أن لا صحّة للاعتقاد بازدرائها الفلسفة؛ إذ آمنت هذه المدينة بـ»فلسفة الحرب»، وأنشأت أجيالاً على مبادئها، حتى اشتُهر رجالها بقوة البأس. لكن، شتّان ما بين «فلسفة الحرب» و»فلسفة الوهم»!