الخرطوم | تسعى الحكومة الانتقالية في السودان إلى حسم ملفّ الحركات المسلّحة، والتوصّل إلى اتفاقيات سلام معها بأيّ ثمن، لإنهاء عقود من الحروب والتمرّد. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، لا تبدي الحكومة مانعاً من الاستجابة لمطالب تلك الحركات، مانحةً بعضها حكماً ذاتياً، وعاكفةً على دراسة مطالَبة بعضها الآخر بالعلمانية، فيما لا يُستبعد أن تُمنح لاحقاً مجموعات ثالثة حق تقرير المصير. في هذا الإطار، جاءت قضيتا فصل الدين عن الدولة وحق تقرير المصير على رأس القضايا التي تَضمّنها إعلان المبادئ بين حكومة عبد الله حمدوك و«الحركة الشعبية - شمال» بقيادة عبد العزيز الحلو التي وافقت أخيراً على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، بعدما تمنّعت عن الانخراط في «اتفاق السلام» الموقّع أخيراً مع الحركات المسلّحة في عاصمة جنوب السودان جوبا. هكذا، انخرط الحلو، أواخر الأسبوع الماضي، في مفاوضات مع حمدوك استمرّت لأربعة أيام في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، أسفرت عن التوقيع على إعلان مبادئ حَدّد القضايا الخلافية التي تتطلّب مناقشات مستفيضة عبر ورش تفاوض غير رسمية من الجانبين (من بين تلك القضايا العلاقة بين الدين والدولة وحق تقرير المصير).
واتّفق الجانبان على أن تكون المفاوضات - مُجدّداً - برعاية دولة جنوب السودان، وفي عاصمتها جوبا، حيث سبق أن عُلّقت الوساطة قبل أسبوعين جرّاء اعتراض الحركة على ترؤس نائب رئيس «مجلس السيادة» محمد حمدان دقلو (حميدتي) وفد الحكومة المفاوِض. وهو موقف أرجعته الحركة إلى مضمون الوثيقة الدستورية التي أسندت ملف السلام إلى رئاسة الوزراء وليس إلى «مجلس السيادة»، معتبرة أن تركيبة الوفد الحكومي تُعتبر خرقاً لذلك المضمون، وواضعة الاستجابة لمطلب علمانية الدولة شرطاً أساسياً لاستمرارها في التفاوض. كذلك، اتُّفق على ربط تاريخ العودة إلى المفاوضات المباشرة بما يتحقّق من نتائج في المفاوضات غير المباشرة، فيما سيصبح الاتفاق ملزِماً بعد مناقشته وإقراره من الجانبين ومن ثمّ إجازته من قِبَل المؤسسات المعنيّة، من دون تحديد هوية تلك الجهات.
إزاء ذلك، استغرب سياسيون ومراقبون طرح قضايا مصيرية كقضية فصل الدين عن الدولة قبل قيام المؤتمر الدستوري الذي نصّت عليه الوثيقة الدستورية، ودعوا إلى إرجاء مثل تلك القضايا إلى حين قيام المؤتمر المذكور. وقال القيادي في «تحالف الحرية والتغيير» يحيى الحسين لـ«الأخبار» إنه «يجب إرجاء القضايا الجوهرية المتعلّقة بشكل الحكم وعلاقة الدين بالدولة إلى حين انعقاد المؤتمر الدستوري، حتى يحسمها الشعب السوداني مُمثَّلاً في أحزابه السياسية ومنظّماته الفئوية وقوّاته النظامية وإداراته الأهلية وفصائله المسلحة».
وفيما خرج عدد من أنصار النظام السابق، يوم الجمعة الماضي، للتنديد بالاتفاق الإطاري ورفض مطالبة «الحركة الشعبية» بعلمانية الدولة، لقيت الخطوة ترحيباً دولياً كبيراً، خصوصاً من قِبَل الولايات المتحدة التي أثنى وزير خارجيتها، مايك بومبيو، في تغريدة على حسابه في «تويتر»، على كلّ من حمدوك والحلو، معتبراً أن خطوتهما «تحفظ الوحدة الوطنية والمساواة بين جميع السودانيين، وتُحقّق حرية الدين أو المعتقد». ويقود الحلو فصيلاً مسلّحاً ضدّ الحكومة المركزية منذ انفصال جنوب السودان عام 2011. وبعد انقسام حركته، «الحركة الشعبية»، إلى جناحين في عام 2017، أصبح الحلو رئيساً لـ«الحركة الشعبية - شمال» التي تسيطر على منطقة جبال النوبة في ولاية جنوب كردفان، وتدعو إلى فصل الدين عن الدولة وتعديل القوانين القائمة على أساس الدين والعودة إلى قوانين 1974.
يسود اعتقاد واسع بأن اتفاقيات السلام الموقّعة أخيراً ستؤول إلى الفشل


على أن جناح الحلو بات، بحسب مراقبين، يعاني تخبّطاً سياسياً يدفعه إلى عقد تحالفات سياسية لخدمة أجندته وأهدافه والحصول على مواثيق تضمن مطلب علمانية الدولة. وفي هذا الإطار، وَقّعت «الحركة الشعبية - شمال» بشكل مفاجئ، يوم الأحد، إعلاناً سياسياً في أديس أبابا مع «الحزب الشيوعي السوداني»، اشتمل على عدد من النقاط، أبرزها أن يتضمّن دستور السودان المقبل المبادئ المعنيّة بالحرّيات وحقوق الإنسان وعدم المساس بها أو تعديلها، وأن يكفل المساواة الكاملة بين المواطنين وعدم التفريق بينهم بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو الثقافة أو اللغة، وأن تعترف الدولة بتعدّد الأديان وتحترمه وتلتزم بالعمل على تحقيق التعايش السلمي والمساواة والتسامح بين الأديان. كذلك، اتّفق الطرفان على رفض إقحام الدين في السياسة واستغلاله وضرورة فصله عن الدولة، فضلاً عن الالتزام بصيانة كرامة المرأة والمساواة مع الرجل، وأخيراً ضرورة سيادة حكم القانون واستقلال القضاء والمساواة بين جميع المواطنين أمام القانون. وكانت «الحركة الشعبية - شمال» قد وقّعت، أيضاً، في تموز/ يوليو الماضي، اتفاقاً سياسياً مع «تجمّع المهنيين السودانيين»، نتج منه إعلان التجمّع انسلاخه عن «تحالف الحرية والتغيير». ودعا الإعلان المشترك، آنذاك، إلى دولة مستقلّة ذات سيادة ديمقراطية تعدّدية لا مركزية، تقوم على أساس فصل الدين عن الدولة وتكون المواطَنة فيها هي أساس الحقوق والواجبات.
ويسود اعتقاد واسع بأن اتفاقيات السلام الموقّعة أخيراً ستؤول إلى الفشل، بالنظر إلى أن بنودها لَبّت مطالب الأشخاص المعنيّين بها ولم تخاطب جذور الأزمة، فضلاً عن أن اتفاقيات من هذا النوع، إذا لم تكن مركزية وحائزة رضى مختلف شرائح الشعب، فإن العجز سيكون مصيرها، حالها حال العشرات من الاتفاقيات التي وُقّعت في العقود الماضية، كما هو حال بروتوكول منطقتَي جنوب كردفان والنيل الأزرق المتضمَّن في اتفاقية السلام الشامل الموقعة عام 2005، والذي نَصّ على أن يقرّر المجلس التشريعي للولايتين شكل العلاقة مع السلطة المركزية بموجب المشورة الشعبية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا