غزّة | طيلة الفترة الماضية، فاض قطاع غزّة بسيل من الحملات التأديبية التي أطلقتها الحكومة المقالة، لكن هذه المرّة وُلدت حملة من نوع خاص وبنكهة استثنائية. بعدما وظفت الحكومة عقليّتها الأمنية في تعقب مرتدي «البنطال الساحل» وأصحاب قصات الشعر الغربية، ها هي اليوم تُقحم العقلية الأمنية في بقعة من المفترض أن تحاط بهالة من القداسة، وتُقصى عن دائرة العمل العسكري والأمني. أخيراً، أطلقت هيئة التوجيه السياسي والمعنوي التابعة لوزارة الداخلية والأمن الوطني في الحكومة المقالة، حملةً بعنوان «ضباط على منابر رسول الله». وبمقتضى هذه الحملة، يعتلي الضباط والعساكر منابر المساجد ببزاتهم العسكرية لإلقاء خطب الجمعة. أمرٌ يعد استثنائياً وغريباً، وخصوصاً في ظل علو صوت كثيرين بضرورة رفع المشايخ وأصحاب العمامات أيديهم عن الحياة السياسية، وعدم إسقاط أفكارهم ووصاياتهم على حياة الناس الشخصية، لكن «الداخلية» أفرزت هذه الحملة لتزيد الطين بلة، وتخلق معها التباساً جلياً بدور العسكري، الذي يشرع له باب التدخل السافر في الشؤون الدينية.
وبموجبها، يؤدي العسكري دور الواعظ الديني غير المسلّح داخل نطاق المسجد، ودور الحامي الأمني الذي يمتشق سلاحه خارج نطاقه.
الحجة التي ساقتها هيئة التوجيه السياسي والمعنوي تتمحور حول كسر حاجز خوف الناس من رجال الأمن، وتحسين صورتهم الذهنية، باعتبار أن الخوف من القبضة الأمنية سيذوب بمجرد إلقاء خطب المساجد!
هذه الحجة دفعت خليل أبو جليدان، مدير الهيئة في رفح، إلى القول إن «ضباط الداخلية جزء من الدعاة، كما هم جزء من منظومة الأمن والأمن الفكري». وأضاف أبو جليدان: «عمل كوادر الشرطة والأجهزة الأمنية ليس محصوراً في ضبط الأمن في ربوع الوطن فحسب، بل يمتد أيضاً إلى نشر الحماية الفكرية والمعنوية ونشر الثقافة بين أوساط المجتمع». تصريحات أبو جليدان توحي بمنح المنظومة الأمنية مزيداً من الصلاحيات، لتتغلل في قلب الأماكن المقدسة، التي من المفترض أن تبقى بمعزل عن المعالجة الأمنية والتحكم السياسي.
المثير للاستغراب هذه المرة أيضاً أن الأوساط المجتمعية العامة، لم تعِ بعد دلالة المسلك الخطير الذي سلكته داخلية غزّة. حتى إن الأوساط الحقوقية التي قرعت جرس الإنذار حين فرضت جامعة «الأقصى» الحكومية ما يسمّى «اللباس الشرعي» على طالباتها، ومُنعت النساء من تدخين النرجيلة في الأماكن العامة، لم تُثرها هذه المسألة، ولم تتبن موقفاً واضحاً منها حتى هذه اللحظة. وبرر مدير مركز «الميزان» لحقوق الإنسان، عصام يونس، في حديثه لـ«الأخبار»، عدم إصدار أي ورقة موقف بهذا الخصوص، بكثافة القضايا والشكاوى المتعلقة بفرض «حماس» أفكارها الدينية على حياة الناس الشخصية، وكان آخرها إصدار وزارة «الصحة» تعميماً يلزم موظفاتها بغطاء الرأس، غير أن التحركات الحقوقية عرقلت تطبيق هذا التعميم. وأوضح أن المؤسسات الحقوقية لم تتلقَ أي شكوى في ما يتعلق بالحملة، مرجعاً ذلك إلى عدم قراءة الناس العواقب الوخيمة التي قد تنتجها هذه الحملة.
قلة من الفلسطينيين التقطوا رسالة الحملة، وتعمقوا بفحواها وآلية تطبيقها على الأرض. قال بعضهم: «يبدو أننا في طور التراجع إلى ما قبل الحضارة المدنية الجديدة. نحاول التخلي والفصل عن سيطرة الشيوخ على الحياة المدنية في عصرنا الحديث، وهي الدولة المدنية التي أسس لها رسول الله. كيف يمكن قبول رجل عسكري أن يكون خطيب مسجد؟ أليس الخطباء هم من يصحّحون للساسة؟ أم الساسة هم من يصحّحون للخطباء؟».
وحول ما إذا كانت هذه الحملة تدشن لفكرة عسكرة المساجد، استبعد الكاتب والمحلل أكرم عطا الله ذلك. وقال لـ«الأخبار»: «هذه الحملة ترمي إلى تحقيق الأيديولوجيا الخاصة بحماس في جميع مفاصل الحياة، وخصوصاً أن الحركة الحاكمة للقطاع ترى أن الأمن عصب الحياة». وأكد عطا الله أنّ «حماس» تربط كل فعالياتها بالبعد الديني، ما دعاها إلى خلط الأمور وعدم الفصل بين الجانبين الدعوي والأمني، مشيراً إلى أن تطعيم الجانب الدعوي بالمفهوم الأمني غير مقبول، وخصوصاً في ظل المناداة بإبعاد المؤسسات الدينية عن التدخل في الحياة المدنية. ولمَ لم تثر هذه الحملة غضب المجتمع المدني؟ يجيب عطا الله على ذلك: «طاولت الحملات السابقة الناس على نحو مباشر، لذا طفا السخط الشعبي على السطح، بينما هذه الحملة مصوّبة نحو كوادر «حماس» الأمنية، وإن كان تأثيرها يمتد إلى عموم الناس، باعتبار أن رواد الجوامع لا ينتمون جميعهم إلى «حماس».