صلنفة | مشهد نساء يصنعن الخبز على التنور، آخر ما يتوقع المرء رؤيته في الطريق إلى الجبهة الصعبة. أطفال في طريقهم إلى مدارسهم، وجنود ينطلقون نحو متاريسهم وحواجزهم. يغالب الناس من أجل الحياة في القرى الواقعة شرق اللاذقية، في اتجاه بلدة صلنفة، التي باتت شهيرة بالمجازر التي ارتكبها المسلحون في قراها في آب الماضي. يحفظ اللاذقيون الطريق إلى المصيف الشهير عن ظهر قلب، إذ احتضن ذكريات مواسم الصيف والسهرات الباردة. البدء من قرية الشلفاطية والمزارع الخضراء القريبة من مدخل اللاذقية، قُبيل الاقتراب من مواقع الخطر.
تُحبس الأنفاس عند اجتياز كل قرية نحو الجهة المقصودة. قريتا السامية والشيخ حسامو تستقبلان المارين ببعض الأحراج المحترقة، ما يؤذن بالوصول. تبدو بلدة صلنفة كئيبة، بمطاعمها المغلقة وشوارعها الفارغة. عدد السيارات المدنية قليل، مقارنةً بالسيارات العسكرية. والمارون سيراً على الأقدام هم حُكماً يرتدون لباساً مموهاً. يصح تسميتها بلدة الأشباح، إذ تصفر شققها الصيفية للريح. ساعة مرّت، قبل الوصول إلى قمة النبي يونس الشهيرة، ذات الجروف الصخرية، التي تحتضن المزار المعروف وتسمّى باسمه. لا يوحي الطقس بالربيع الذي بدأت تعيشه قرى الساحل، إذ إن المنخفض الجوي أثلج الأنوف والآذان بهواء بارد، يهزأ به الجنود. الثلج الذي يغطي القمة طوال فصل الشتاء لا يؤثر في قدرة تحمّل المقاتلين.
يخزّن الجنود غذاءً يكفيهم لمدة ستة أشهر، خشية حصار الثلج. نظرة واحدة من أعلى القمة كفيلة بفهم خطورة المكان. تنبسط ثلاث محافظات، بسهولها وتلالها أسفل القمة الشهيرة، ما يسمح برصد أية تحركات مريبة من الأعلى. تلوح من بعيد قمة الجبل الأقرع. تبدو المواجهة ندية بين القمتين، بالمعارك الجارية على تخوم كل منهما. المنطقة كانت تدعى جبال العلويين، إذ تمتلئ التلال بمزاراتهم الدينية. إنما التأمل في الخارطة الفعلية للتوزع السكاني، والانقسام الحاد الذي سببته الأزمة، يظهر خروج مناطق كاملة عن سيطرة الدولة.
حلم المسلحين
اجتياح صلنفة التي يعدّونها بوابة القرداحة


«جبهة هادئة»، هكذا يسميها، ساخراً، قائد موقع النبي يونس العسكري، في أقصى الريف الشرقي للاذقية. ويضيف: «مناوشات بعيدة، ومحاولات للتشتيت. إنما لا شيء يشغلنا عن الاستعداد الدائم لمفاجآتهم». القائد المقاتل يعد المسلحين بـ «الكثير من المفاجآت» أيضاً. فشل المسلحون في إسقاط قمة النبي يونس المحصّنة ضد أي اعتداء، التي تبعد عن اللاذقية 17 كلم شرقاً، عند اجتياح المراصد المجاورة وقرى صلنفة. لا تبعد قمة النبي يونس سوى ستة كيلومترات عن القرى المنكوبة التي ارتكب فيها مسلحو المعارضة في آب الماضي مجزرة في حق المدنيين، واختطفوا عشرات النساء والاطفال لا يزالون في الأسر حتى اليوم. لم تنشغل حامية موقع النبي يونس بجبهة كسب المشتعلة، أقصى الشمال، عن حماية قلعتها المحصنة بعناصر الدفاع الوطني، باعتبارها تتبع لقطاع حمايتهم. يتحدث قائد الموقع عن كمائن مخفية يحصّن من خلالها القمة، ويجعل وصول المسلحين إليها صعباً. ويقول: «كمائننا موجودة وهم يعرفون ذلك جيداً. وبرغم محاولاتهم اليومية إحداث خرق، إلا أنهم يفشلون. السبب أنهم لا يتوقعون أماكن تخفّي مقاتلينا». حماسة المقاتل قصي ابراهيم، أو «أبو جعفر»، كما يناديه رفاقه، لم تأتِ من فراغ. يتجوّل في النقطة العسكرية مستعرضاً آلية حمايتها ونقاط قوتها. وبرغم مفاجآته الكثيرة، إلا أن محاولات المسلحين التسلل لا تتوقف. الرجل يعدّ أشهر من حادث المسلحين ساخراً عبر اللاسلكي مردداً، على مسمع جنوده في أحلك الظروف، عبارة: «افتح قبرك». «أبو جعفر»، الذي ترك وظيفته ليقود مجموعة من المقاتلين على إحدى القمم الباردة، يعلّق على هذا الأمر بقوله: «إذا راحت الوظيفة بترجع. بس البلد إذا راح ما بيرجع». ويتابع: «فتحوا بلادنا على كل الجنسيات، فاستباحوا أعراضنا. إذا ما قاتلتهم اليوم، رح شوفهم في بيتي بكرا».
يعي قادة الجيش والقوات الرديفة له أن أي تقصير في حماية قمة النبي يونس التي ترتفع 1537 متراً عن سطح البحر، سيجرّ وراءه فتح ثغر لا يمكن سدّها في الساحل السوري. وهذا سبب عدم المشاركة الكبيرة لـ«الدفاع الوطني» في معارك كسب المشتعلة حالياً، إذ إن السيطرة على القمة الاستراتيجية هي التي تحدد صاحب الغلبة في أي معركة. التعزيزات التي دخلت اللاذقية من المحافظات الأُخرى، خلال معارك كسب الأخيرة، كانت أجدى نفعاً من إخلاء نقاط القمة الشهيرة من مقاتليها الكثر، لأنها تمثل الحامي الأساس للجبهة الأطول والأخطر، بحسب العسكريين. وفي العِلم العسكري، بحسب القادة الميدانيين، تعدّ القمة المذكورة «عارضاً حساساً» لكونها تكشف مناطق سيطرة المسلحين شمالاً في نقاط عدة، أبرزها عكو وعرافيت وكدين وجب الأحمر وعين الجوزة. الموقع الاستراتيجي المهم للقمة يؤثر في عمق ثلاث محافظات سورية أساسية. فهي تعد الحد الفاصل بين محافظتي حماه واللاذقية، وتتبع إدارياً لمحافظة حماه، فيما تطلّ شمالاً على محافظة إدلب. وتتحكم في مناطق سيطرة المسلحين في جبل الأكراد وسلمى وكنسبّا القائمة على عدد من التلال في الشمال الغربي، وينكشف شرقاً سهل الغاب. ينبسط السهل على أشكال هندسية بتدرجات ألوان النبات والتراب. برقيات عدة جاءت، أخيراً، لإنذار حُماة المحاور في كسب وخربة سولاس والنبي يونس من هجمات متوقعة للمسلحين. آخر اشتباكات عنيفة بين قوات «الدفاع الوطني» والمسلحين، كانت قبل 40 يوماً، حيث انفتحت الجبهة جحيماً في محيط القمة التي أصبحت تحت مرمى قذائف الهاون والقنّاصات وعربات «الشيلكا». يرصد المقاتلون تحركات الآليات «المعادية»، ويعلمون أن حلم المسلحين هو اجتياح صلنفة، التي يعدّونها بوابة دخول القرداحة، عبر السيطرة على القمة الحصينة. تثير العبارة ابتسامات مقاتلي الكمائن، الذين يغالبون قسوة البرد. «الربيع خفف من شدة البرد الذي يعد أهم مؤشر على عدم وجود شروط البقاء»، يقول أحد المقاتلين من خلف متراسه. ويستذكر أعنف اشتباك مرت به النقطة الاستراتيجية في 24/ 4/ 2013، أي قبل الاجتياح الشهير للقرى الآمنة بأشهر، لافتاً إلى انّ الاشتباك استمر قرابة الساعة. ويضيف: «تسللوا إلى محيط القمة، ثم بدأت تصل دباباتهم وعربات أسلحتهم. هجوم استطعنا صدّه ودحرهم». تجربة إدارة القمة وتنظيمها للعمل العسكري، تفرز جنوداً مرتاحين إلى جبهتهم. الطعام المؤمّن والتنظيم المناسب جعل القمة عصية على الاختراق. لا يبدو على وجوه المقاتلين أي تأثر بالبرد، فسخونة الجبهة الدائمة تدفئ الثلج المتساقط طوال الشتاء، وتستنهض طاقاتهم القتالية.

يمكنكم متابعة مرح ماشي عبر تويتر | @marah_mashi