الخرطوم | على رغم إبقاء والي ولاية كسلا (شرق)، صالح عمار، في الخرطوم مدّة ثلاثة أشهر منذ تعيينه وحتى إقالته، إلا أن المدينة ظلّت تعيش على صفيح ساخن طيلة تلك المدّة، إلى أن جاء قرار رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، قبل يومين، والقاضي بإقالة الوالي - الذي سبق وأن وافق على تعيينه في تموز/ يوليو الماضي -، ليصبّ بذلك الزيت على النار، مُتسبّباً بتفجير الأوضاع في المدينة، إذ أَجّج قراره الصراع القبلي هناك، ما أدّى إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى، لتشرع السلطات، على الأثر، في إجراء تحقيق في الأحداث، وتُعلن حالة الطوارئ لمدّة ثلاثة أيام إلى حين عودة الهدوء. وأوضح المتحدث باسم الحكومة، فيصل محمد صالح، أن مجموعات موالية للوالي المقال عمدت إلى تسيير تظاهرة رافضة لقرار إعفائه في أحد ميادين مدينة كسلا، بعد أن اتفقت مع السلطات الأمنية على انفضاض التجمّع بعد مدّة محدّدة انطلاقاً من «احترام حق المواطنين في التظاهر السلمي»، غير أن عدداً من المتظاهرين اتّجهوا، بحسب المتحدث، إلى مبنى حكومة الولاية لاحتلاله واحتلال الجسر الرئيس في المدينة، ما أدى إلى اشتباكات بينهم وبين قوّة مشتركة من الشرطة والجيش و«الدعم السريع»، أسفرت عن مقتل سبعة مدنيين وعسكري، فيما وصل عدد الجرحى إلى 29 شخصاً. وأشار صالح إلى أن النيابة العامة فتحت تحقيقاً في الأحداث لمعرفة المتسبّبين بها من كلّ الأطراف، سواء أكانوا من المدنيين أم العسكريين، مضيفاً أن الجهاز التنفيذي والسيادي في حالة اجتماعات مستمرّة مع ممثلي المكوّنات المختلفة لامتصاص التوترات والآثار السلبية التي بدأت تظهر في المدينة نتيجة انتشار الخطاب العنصري، وإثارة النعرات القبلية، واستغلال البعض للوضع المتوتّر في شرق السودان.
من جهته، رأى الوالي المقال أن قرار إعفائه جاء رضوخاً لـ«ابتزاز» مارسته مجموعة من بقايا النظام السابق تحت ستار زعيم قبيلة، بالإضافة إلى مجموعة من الفاسدين وأصحاب المصالح، والتي «تعمل على جرّ الولاية إلى الفتنة»، معتبراً أن «استجابة الحكومة لأجندة هذه المجموعة تهدف إلى عرقلة التحوّل الديمقراطي». وكشف صالح عمار، عبر منشور على «فيسبوك»، عن لقاء جمعه برئيس الوزراء في السابع من الشهر الحالي، بمعيّة عدد من قيادات الصف الأول في الإدارات الأهلية في شرق السودان وقيادات في «ائتلاف الحرية والتغيير»، لافتاً إلى أن جميع هؤلاء أبلغوا حمدوك رفضهم استقالة الوالي أو إقالته في هذا التوقيت، كونها ستُفهَم على أنها جاءت نتيجة ضغوط، وحينها لن يستطيع أحد السيطرة على الشارع. وناشد المجتمعون، رئيس الوزراء، بحسب منشور عمار، إعفاء الأخير مع بقية الولاة بعد أسابيع قليلة ضمن بنود «اتفاقية السلام» المُوقّع في جوبا مع الحركات المسلّحة. وتابع الوالي المقال: «الآن، لدى هؤلاء القادة من الإدارات الأهلية شعور بأنه قد تمّ الغدر بهم، وأن الدولة أصبحت في مواجهتهم، والرصاص والدماء التي سالت تثبت ذلك» ، مناشداً مجلسَي الوزراء والسيادة التحرّك السريع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
لا يُبرّئ محلّلون المكوّن العسكري في «مجلس السيادة» مِن ما يجري في كسلا من اقتتال قبلي


ويعيب مراقبون على رئيس الوزراء توقيت قراره، وإن كانت له أسبابه، إلا أنه من غير المناسب اتخاذه في لحظة من الاستقطاب القبلي الحادّ في المدينة، منذ الإعلان عن تعيين عمار الذي ينحدر من قبيلة بني عامر، فيما تقود الجانب الآخر قبيلة الهدندوة بزعامة ناظر القبيلة سيد محمد الأمين ترك. وفي ظلّ التعبئة الإثنية وإثارة الخطاب العنصري، كان من الأجدر، بحسب المراقبين، إبقاء الوالي في منصبه، وإرجاء قرار إقالته، الذي جاء بعد توصية من مجلس الأمن والدفاع، إلى حين إصدار قرار بإقالة جميع ولاة الولايات، توطئة لإنزال «اتفاق جوبا»، الذي ينصّ على تقسيم السودان إلى ثمانية أقاليم، إلى أرض الواقع.
في الأثناء، وَجّه نائب رئيس «مجلس السيادة»، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، القوات النظامية، بـ«فرض هيبة الدولة والقيام بواجبها تجاه حماية المواطنين»، موضحاً أنه بموجب «اتفاق السلام» سيتمّ إعفاء ولاة الولايات، معلناً تشكيل لجان من الخبراء والأعيان والإدارات الأهلية لحلّ مشكلة شرق السودان «حلّاً جذرياً». من جانبها، دعت «الجبهة الثورية» إلى «تحكيم العقل وإخماد نار الفتنة وتفويت الفرصة على المتربّصين بالثورة»، معتبرة، في بيان، أن «مؤتمر أهل شرق السودان سيُمثّل فرصة حقيقية لعقد مصالحات مجتمعية واستكمال استحقاقات اتفاقية السلام». أما «حركة تحرير السودان» بقيادة عبد الواحد نور، فدانت العنف المفرط الذي تعاملت به الشرطة مع المواطنين، مطالبةً، بحسب المتحدّث باسمها محمد الناير، بإجراء محاكمات فورية وعلنية لعناصر الشرطة المتورّطين في إطلاق النار ومَن أمَرهم بذلك. وعاب «حزب الأمة القومي» بزعامة الصادق المهدي، بدوره، على الحكومة، عدم الأخذ برؤيته الخاصة في مسألة تعيين ولاة الولايات، ولا سيما في الولايات التي تعاني هشاشة أمنية.
ولا يُبرّئ محلّلون المكوّن العسكري، الذي يدعم أحد المكوّنات القبلية ضدّ الآخر، مِن ما يجري في كسلا من اقتتال قبلي، الغرض منه زعزعة الاستقرار وخلق بلبلة أمنية، لإضعاف الحكومة المدنية، وشغلها خلال الفترة الانتقالية بمعالجة الانفلات، عوضاً عن الالتفات إلى معاش الناس وإدارة عجلة الاقتصاد.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا