عبر "الأوامر الملكية" و"المراسيم بقوانين" و"المراسيم"، يُسيّر القصر الوضع البحريني، ضارباً عرض الحائط بمبدأ التوافق الوطني المدّعى في الخطاب المَلَكي، وبالمؤسّسة التشريعية التي يسيطر عليها القصر أصلاً. يُقصَد بـ"الأمر الملكي"، تحديداً، الأداة القانونية التي تمنح الملك صلاحيات مطلقة في اتخاذ القرارات في مسائل بالغة الأهمّية، يحدّدها دستور مملكة البحرين، المُختلَف عليه في 12 موضعاً على الأقلّ، في ما يلي بعضها:
احتكار تعيين الحكومة
يَمنح الدستور، الذي أصدره حمد بن عيسى آل خليفة، من طرف واحد، في شباط/ فبراير 2002، الملك صلاحيات شبيهة بصلاحيات الملك الإنجليزي قبل نحو ثمانية قرون. ويكاد يحتكر الملك السلطات كافة، ويرأسها جميعاً، ويَتحكّم في مفاصلها؛ إذ "يُعيّن الملك رئيس مجلس الوزراء، ويعفيه من منصبه بأمر ملكي" (المادة 33/د)، ومن دون مشاورة الكتل النيابية، أو أيّ طرف آخر في البلاد، فبمقتضى "الأمر الملكي" يُمنح "رأس الدولة" صلاحيات لا يمكن ردّها أو محاججتها! وهذا مختلف عن الطريقة المتّبعة في دستور دولة البحرين (1973)، والذي ألغاه الملك من طرف واحد مطلع 2002.
ووفق المادة (33/ب) من ذاك الدستور (1973)، فإن تعيين رئيس الوزراء وإعفاءه يتمّان "بعد المشاورات التقليدية"، وهي عبارة فضفاضة، ولا تُظهر إلزاماً للملك بأن يُشرِك القوى السياسية في مشاورات تأليف الحكومة، لكن هذه الفقرة تفتح باباً للقوى السياسية للمجادلة بشأن ذلك. ورغبةً في تكريس الملك سيّداً أوحد، تمّ إلغاء تلك الفقرة من دستور 2002. أمّا تعيين الوزراء فيُفترض أن يتمّ "بناءً على ترشيح رئيس مجلس الوزراء"، وفق دستور دولة البحرين، وليس عرضه فقط، كما في دستور مملكة البحرين. والفارق جليّ بين الترشيح والعرض!
والحقيقة، فإن إضعاف رئيس الوزراء كان من بين الهواجس الرئيسة التي حضرت لدى الملك عند كتابة دستور 2002. فقد صيغ الدستور ليمنح الملك حمد قوة عظمى في مواجهة أيّ مركز آخر في الدولة، سواء أجنحة الحكم أم المؤسسة التشريعية أم الحكومة، آخذاً في الاعتبار التهميش الذي مارسه رئيس الوزراء ضدّ ابن أخيه، حمد، الذي كان وليّاً للعهد، من دون صلاحيات، طوال ثلاثة عقود، إلا تلك المتعلّقة بالمؤسّسة العسكرية. وقد مكّن الجيش الملك حمد من الوثوب على قمة السلطة من دون منازع، بعد وفاة والده عيسى بن سلمان آل خليفة، في آذار/ مارس 1999.
وطبعاً، صيغ الدستور، في المقابل، ليمنع تشكيل مؤسّسة برلمانية قوية، ومجلس وزراء منافس للملك، كما كان عليه وضع مجلس الوزراء إبّان حكم الأمير السابق، عيسى، طوال الربع الأخير من القرن العشرين. حالياً، نجد أن الملك "يرأس جلسات مجلس الوزراء التي يحضرها" (المادة 47/ب)، ويتحكّم في العمل التنفيذي، والحكومة من وجهة نظر القصر لا ترسم السياسات بل تُنفّذها، في بلد يقوم على مبدأ "النظام الرئاسي"، وفق مفهوم القصر، فالملك يأمر، ومجلس الوزراء يُنفّذ. وقد شكّل مطلب إشراك المؤسسة البرلمانية في تشكيلة مجلس الوزراء أحد أبزر مطالب حركة 2011 الاحتجاجية المقموعة، التي نادت بـ"حكومة تُمثّل الإرادة الشعبية بدل الحكومة المعيّنة".

احتكار تعيين نصف أعضاء البرلمان
"يُعيّن الملك أعضاء مجلس الشورى ويعفيهم بأمر ملكي" (المادة 33/والمادة 52)، أي إن القصر يملك صلاحيات تعيين نصف أعضاء المؤسسة التشريعية. وعند تعريف "البرلمان"، تبرز مُغالطةٌ يغفل عنها كثيرون، بتكرار الحديث عن أن مجلس النواب يساوي البرلمان. والحقيقة أن دستور 2002 القائم يتحدّث عن برلمان مكوّن من ثمانين عضواً، يتوزّعون على غرفتين: غرفة تُسمّى مجلس النواب، مكوّنة من أربعين عضواً "منتخباً"، مع التشديد على أن فرضية "الانتخاب" تحتاج إلى أن توضع في دائرة المساءلة؛ وغرفة أخرى تُسمّى مجلس الشورى، المكوّن هو الآخر من أربعين عضواً، وهؤلاء يُعيّنهم الملك، ويحظون بصلاحيات تشريعية كتلك التي يتمتّع بها أعضاء مجلس النواب، وتمكّن المُعيَّنين من مصادرة قرار "المنتخَبين"، ما يضع عملية التشريع تحت رحمة الأعضاء التابعين لِمَن قام بتعيينهم، أي تحت هيمنة القصر، الذي هو فوق ذلك يملك بمفرده صلاحيات تشريعية واسعة!

التحكّم في العملية الانتخابية
فوق أن الملك يتحكّم في تعيين نصف عدد أعضاء البرلمان، فإنه يتحكّم في اللعبة الانتخابية، عبر الهيمنة على إصدار "الأوامر بإجراء الانتخابات لمجلس النواب" (مادة 42/أ)، بينما يُفترض أن تكون هناك جهة مستقلّة تشرف على العملية الانتخابية، وتتولّى تنظيمها. وهكذا، بينما يُفتَرض انتخاب أعضاء المجلس النيابي بالاقتراع السرّي، يتّضح كم أن ذلك الافتراض مخادع؛ فالعملية الانتخابية مكيّفة برمتها، بدءاً من بنود القوانين المنظّمة للانتخابات، مروراً بالجهة المشرفة عليها، وصولاً إلى احتكار القصر هندسة الدوائر الاقتراعية، وتدخّله في تمويل الحملات الانتخابية، واختيار المرشّحين، ثمّ الانتصار لمرشّح دون آخر.
القصر لا يملّ الحديث عن البحرين وكأنها ديمقراطية ويستمنستر


وبالنظر إلى تحكّم السلطات في مُدخلات العملية الانتخابية، فقد تَحوّلت الانتخابات إلى لعبة معلومة النتائج سلفاً. وهناك شواهد لا تكاد تحصى للتدخّل الحكومي، ومنها الهزيمة المصطنعة حكومياً، والتي لحقت بالزعيم الوطني الراحل عبد الرحمن النعيمي مقابل عيسى أبو الفتح (2006)، أو في إطاحة 37 نائباً أغلبهم من الموالاة، كانوا أعضاء في برلمان 2014، ولم يتمّ التجديد لهم على رغم مشاركتهم في الانتخابات - في وقت قاطعت فيه كبرى جمعيات المعارضة (الوفاق) -، وما أظهروه من دعم لمختلف طلبات الحكومة، وهكذا يظهر أن المجلس المنتخَب يجري تعيين الكثير من أعضائه. وعملياً، فقد تمّ منع أو تقليص وصول القوى السياسية الموالية مثل السلفيين و"الإخوان"، أو المعارضة مثل "الوفاق"، إلى مجلس النواب، وبات المستقلّون هم العمود الفقري للمجلس النيابي المسيّر.

التحكّم في انعقاد البرلمان
حسناً... بعد تشكيل المجلس البرلماني المكوّن من 40 مُعيّناً و40 يتمّ انتخاب الكثير منهم في عملية مكيّفة مسبقاً، فإن المجلسين يظلّان فاقدين للأهلية، أو ليسا محلّ ثقة، من وجهة نظر القصر. ولذا، يُصرّ الملك على أن يقرّر بنفسه "دعوة المجلس الوطني إلى الاجتماع بأمر ملكي، ويفتتح أدوار الانعقاد، ويفضّها"، سواءً كانت أدواراً عادية أم غير عادية (طارئة)، وذلك وفق المادتين 75 و67 من دستور 2002. فلا يملك البرلمان حق الاجتماع، وحق تحديد متى يتمّ فضّ الأدوار التشريعية، إلا بأمر من الملك، على الرغم من كلّ التحصينات المسبقة التي تمنع بناء مؤسسة تشريعية شعبية قوية.
ونحن نعلم أن "مدّة مجلس النواب أربع سنوات"، لكن "للملك أن يَمدّ الفصل التشريعي لمجلس النواب عند الضرورة بأمر ملكي مدّة لا تزيد على سنتين"! وطبعاً، مفهوم الضرورة مطّاط، وتفسيره بيد الملك، أو في أحسن الأحوال بيد المحكمة الدستورية، التي تتكوّن هي الأخرى "من رئيس وستة أعضاء يُعيّنون بأمر ملكي"! (المادة 106)، فلا يُتصوّر أن تأتي قراراتها مخالفة لهوى مَن عَيّنها، وهو الملك، الذي يرأس فوق كلّ ما سبق المجلس الأعلى للقضاء، و"يعيّن القضاة بأوامر ملكية"، (المادة 33/ح).
وعلى الرغم ممّا يتمتّع به الملك من صلاحيات تشريعية وتنفيذية شبه مطلقة، فإن "ذاته مصونة لا تُمسّ" (المادة 33/أ)! لكن القصر لا يملّ الحديث عن البحرين، وكأنها ديمقراطية ويستمنستر، بينما هي في الواقع دكتاتورية تَخلّت حتى عن قفازاتها وأقنعتها.