في مؤتمر دوليّ عن التأمين، عُقد في موسكو العام الماضي، طلب مدير شركة تأمين خاصّة سورية الحديث في إحدى جلسات المناقشة، ليسأل إن كان لسوريا نصيب من الاستثمارات الروسية الخارجية في هذا القطاع، لا سيما أن العلاقة بين البلدَين توثّقت منذ دخول روسيا الحرب إلى جانب حليفتها. أجاب أحد المسؤولين الروس عن قطاع التأمين بالقول إن «خوض الحروب في العالم يكون إمّا لأسباب سياسية أو تحقيقاً لمصالح وأهداف اقتصادية. دخول روسيا الحرب في سوريا كان قراراً سياسياً، ولم يكن لأسباب اقتصادية. لذلك، ليس لدينا أيّ خطط مستقبلية للاستثمار في سوق التأمين السورية، والتي هي في النهاية سوق صغيرة وغير مغرية مقارنة بأسواق دول أخرى». إجابةٌ لها ما يؤيّدها عملياً، لناحية اهتمام القطاع الخاص في روسيا بالاستثمار في سوريا، إذ تُظهر بيانات هيئة الاستثمار السورية، في الفترة الممتدّة بين عامَي 2009 و2019، وجود مشروع روسيّ واحد مشمول بقانون الاستثمار منذ عام 2013، ويتعلّق بإنشاء مزارع ريحيّة لتوليد الطاقة الكهربائية في محافظة السويداء، لكنّه لم يدخل حيّز التنفيذ بعد. وحتى الاستثمارات الروسية الأخيرة في قطاعَي النفط والثروة المعدنية والنقل، والتي تنظّمها وتحكمها تشريعات أخرى، ما كانت لتتمّ لولا التنسيق المباشر بين موسكو ودمشق من جهة، وحيوية المشروعات المستهدَفة ومردودها الاقتصادي السريع من جهة أخرى.
ليس هناك ما يُغري!
معظم جوانب التعاون الاقتصادي بين البلدَين على مدى سنوات، وربما عقود، كان يجري تحريكها وتوجيهها بقرار سياسيّ من الدولتين، بدءاً من اتفاقية المدفوعات الشهيرة أيّام الاتحاد السوفياتي، مروراً بالاتفاق على تسوية وجدولة الديون في عام 2005، وصولاً إلى دخول موسكو الحرب إلى جانب دمشق وحلفائها عام 2015، وما تبع ذلك من توقيع اتفاقات تعاون ومذكّرات تفاهم بين الدولتين. ربّما تكون صورة التبادل التجاري اليوم الأكثر تعبيراً عن هذا الواقع، إذ تغيب روسيا عن قائمة أهمّ عشرين دولة تتّجه إليها صادرات القطاع الخاص السوري، بحسب بيانات وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية لعامَي 2018 و2019. وتفيد البيانات التي حصلت عليها «الأخبار» بأن موقع روسيا كدولة مصدّرة لسوريا تراجع من المرتبة الثانية في عام 2018 إلى المرتبة الرابعة في عام 2019، والسبب ليس أن دولاً أخرى كالصين والهند زادت من قيمة صادراتها لسوريا في 2019 وحسب، وإنّما لكون الصادرات الروسية إلى سوريا تراجعت من حوالى 240.8 مليون يورو في 2018، إلى نحو 171.9 مليون يورو العام الماضي.
هذا الخلل الاقتصادي مردّه، بحسب الباحث السياسي مازن بلال، «بنيويّ»؛ فالأسواق السورية «ليست جذّابة. وفي المقابل أيضاً، لا يحظى المُنتَج الروسي بشعبية داخل سوريا. وبذلك، فإن العلاقات الاقتصادية تَبقى على مستوى آخر متأثرة بنتائج الأزمة السورية، مثل استيراد دمشق للقمح وغيره من المنتجات والسلع، بينما لا يبدو رأس المال السوري مهتمّاً بما تنتجه روسيا». ويقول بلال، في حديث إلى «الأخبار»، إن «جذب القطاع الخاص الروسي في اتجاه السوق السورية لا يبدو حالياً من أولويات القطاع الخاص السوري لأسباب مختلفة، أهمّها نوعية المنتجات الروسية. ومن جانب آخر، فإن المورّدين السوريين، على عكس نظرائهم الأتراك، لا ينشطون في عملية تصدير منتجات البلاد الزراعية إلى روسيا».
يتحوّل الموقف الروسي إلى ما يشبه خيبة أمل شعبية في ظلّ الأزمات المتلاحقة


لهذه الأسباب وغيرها، سُجّلت خلال السنوات الماضية محاولات خجولة للتشبيك بين فعاليات القطاع الخاص في كلا البلدين، من قبيل تنظيم زيارات لممثّلي بعض الشركات الخاصة وإعادة تشكيل مجلس الأعمال السوري - الروسي المشترك، إلّا أنّ مؤشّرات تلك الخطوات لا تزال غير مشجّعة. مع ذلك، يعتقد الباحث الاقتصادي، هاني الخوري، أن «النهج قد تَغيّر. فروسيا تريد التغلغل في الحالة الاقتصادية السورية بعدما استقرّ وجودها الأمني والعسكري، وذلك عبر إثبات وجودها ضمن دائرة المصالح الاقتصادية المتبادلة، وإنشاء طبقة رجال أعمال جديدة ترتبط بالمصالح الروسية». ويضيف الخوري، في حديث إلى «الأخبار»، أنه «على علم بمؤتمر يُعقد الشهر المقبل، دُعي إليه التجار والصناعيون الشباب، بهدف التشبيك مع نظرائهم الروس، حيث ستُطرح عليهم فرص اقتصادية جاهزة من قِبَل روسيا».

الكعكة الكبيرة!
الحضور الاقتصادي الروسيّ المرافق للدعم العسكري تَركّز في معظمه في القطاع النفطي، ما أعطى انطباعاً بأن الشركات الروسية مهتمّة فقط بالاستحواذ على الاستثمارات الكبرى في البلاد. انطباعٌ عزّزه مؤشران: الأول عدم ظهور استثمارات روسية كبيرة أخرى في قطاعات ضرورية في مرحلة العقوبات الغربية (الصناعات الغذائية والتحويلية وغيرها)؛ والثاني غياب أيّ تحرّك روسي للتخفيف من حدّة الضائقة الاقتصادية التي تمرّ بها سوريا جرّاء العقوبات الغربية. وحتى عملية استثمار شركة روسية لمرفأ طرطوس، والمتمثّلة في تطوير بنيته عبر ضخّ 50 مليون دولار في السنوات الأربع الأولى والعمل على إخراجه من دائرة العقوبات وإعادة تفعيله على خريطة تجارة الترانزيت الشرق أوسطية، لم تحقّق غايتها المرجوّة بعد.
يتحوّل الموقف الروسي إلى ما يشبه خيبة أمل شعبية في ظلّ الأزمات المتلاحقة في تأمين المشتقات النفطية من دون أيّ تدخّل من موسكو، على رغم أن الأخيرة تُعدُّ أحد أكبر منتجي النفط والغاز في العالم، ولديها - للمفارقة - عقود ضخمة مع وزارة النفط السورية. وبحسب الباحث مازن بلال، دفع «التحالف بين موسكو ودمشق إلى استثمارات في السلع الاستراتيجية مثل التنقيب عن النفط أو الفوسفات، أو استثمار مرفأ طرطوس لاعتبارات عسكرية أكثر منها اقتصادية». إلّا أن هناك مَن يعتقد أنه لا يزال «من المبكر تقييم نتائج العقود الموقّعة مع الشركات الروسية في القطاع النفطي»، بحسب خبير نفطي فضّل عدم الكشف عن اسمه.
في خضّم الضبابية التي تلفّ مستقبل العلاقة الاقتصادية التي يسعى إليها البلدان، جاءت زيارة الوفد الروسي الأخيرة برئاسة نائب رئيس الوزراء يوري بوريسوف، وعضوية وزير الخارجية سيرغي لافروف، لتستدرك موسكو «انتقائيّتها» الاستثمارية، وتُوسِّع من دائرة اهتمامها وتعاونها الاقتصادي مع دمشق، وذلك عبر دخولها في مفاوضات مع الحكومة السورية لوضع اللّمسات النهائية على جملة مشروعات اقتصادية متنوّعة، قيل إن عددها يصل إلى 50 مشروعاً موزّعة قطاعياً وجغرافياً، تأمل الحكومة الروسية عبرها استرداد ديونها ومساعدة حليفتها على مواجهة العقوبات الأميركية، انطلاقاً من القاعدة التي باتت ثابتة بين «الحلفاء»: ما أُنجز عسكرياً يجب ألّا يُمسَّ من البوابة الاقتصادية. وهذا ما جعل دمشق تبدو مرتاحة ومتفائلة إزاء مرحلة التعاون الاقتصادي المقبلة، بخلاف ما ذهبت إليه بعض التحليلات الغربية والتي رأت أن الخطوة الاقتصادية الروسية مرهونة بأخرى سياسية سورية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا