دمشق | في كل مرة يتجه فيها من مدينته طرطوس نحو دمشق، كانت عيناه تتسابقان لالتقاط أي جديد يتعلق بالمعمل الذي بناه قبل سنوات على أطراف مدينة يبرود. لكنه مع مطلع العام الجاري، توقف عن فعل ذلك؛ فالمعمل سرق بكل ما فيه، حتى إن أسلاك التمديدات الكهربائية سُحبت من الجدران. لم يكن هذا المستثمر سوى واحد من مئات المستثمرين والصناعيين والحرفيين ممن احتضنتهم يبرود في العقدين السابقين، وحولوها إلى إحدى أهم المناطق الصناعية في سوريا، بالتزامن مع متغيرات اقتصادية واجتماعية وثقافية كثيرة جعلت من هذه المدينة، التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، درة منطقة القلمون خاصة، والريف السوري عموماً.

فما الذي حدث حتى انقلبت يبرود بكل مؤشراتها التنموية المتقدمة من مدينة تصنع الحياة إلى مدينة تصنع الموت؟ ومن مدينة يعيش فيها المسلمون والمسيحيون منذ عصر الفتوحات الإسلامية بأُخوّة ومحبة، إلى مدينة ترفرف على أسطح منازلها الرايات السود وتسرق كنائسها وتهدم؟

بلغة الأرقام

على خلاف كثير من المناطق السورية، التي وجد المسلحون في فقرها وعوزها بيئة مناسبة لنشر أفكارهم وتوجهاتهم وعسكرة حياتها اليومية، كانت يبرود قبل الأزمة تتقدم في تصنيف مؤشراتها التنموية، ليس على قريناتها من مدن الريف السوري فحسب، بل على محافظات بأكملها. فمثلاً، تشير النتائج غير المنشورة لمسح دخل ونفقات الأسرة في يبرود الى أن نسبة البطالة بين ذكور المدينة لم تكن تتجاوز قبل الأزمة 2.6% وبين إناثها 19.7%، ليكون بذلك إجمالي معدل البطالة فيها نحو 4.7%، فيما كان هذا المعدل يسجل أرقاماً مخيفة في بعض المحافظات. إذ بلغ في محافظة الحسكة، مثلاً، 38.8%، وفي دير الزور 23.5%، وفي السويداء 22.4%، وفي اللاذقية 19.1%.
وتأكيداً لمساحة تأثير النشاط الصناعي والحرفي في حياة سكان المدينة، تؤكد بيانات المسح المذكور أن 48.8% من المشتغلين في يبرود يعملون في مهن حرة، و21% موظفون في مؤسسات الدولة، ونحو 30.2% يعملون في شركات خاصة. وتفصيلاً، تشير البيانات الإحصائية إلى أن 27.3% من إجمالي عدد المشتغلين في يبرود هم أصحاب عمل، و13% يعملون لحسابهم، و51.8% يعملون بأجر ما عدا الأسرة، فيما 8% يعملون بأجر مع الأسرة.
هذه البيانات تتقاطع مع إحصائيات وزارة الصناعة الخاصة بالنشاط الصناعي الخاص في منطقة يبرود، التي خلصت إلى القول إن عدد المشاريع الصناعية الموجودة في المنطقة يناهز 800 مشروع متفاوت الحجم والنشاط، وبكلفة استثمارية تربو على عشرات المليارات من الليرات السورية، بينها مصنعان وحيدان في سوريا: الأول لتصنيع وتعبئة المتة، لا يزال قائماً إلى اليوم، والثاني لتصنيع إحدى أهم ماركات الساعات المسجلة في العاصمة السويسرية، وأغلقه أصحابه خلال فترة الأزمة.
لكن مقابل هذا النشاط الواسع للقطاع الخاص، بدت الدولة غائبة تماماً عن المنطقة. فباستثناء معمل واحد، لا تتوافر هناك أي استثمارات صناعية للقطاع العام.
بالانتقال إلى الوضع المعيشي والاجتماعي للعائلات المقيمة في يبرود، نجد من خلال عرض البيانات الإحصائية التي حصلت عليها «الأخبار»، أن إنفاق العائلات يبدو متقدماً كثيراً على إنفاق عائلات أخرى، وإن كان ذلك لا يلغي وجود عوز هنا أو محدودية في الدخل هناك، لكن، عموماً، الظروف المعيشية كانت تبدو جيدة. فمثلاً، توضح بيانات مسح دخل ونفقات الأسرة، الذي نفذه المكتب المركزي للإحصاء عام 2009، أن متوسط الإنفاق الشهري للشريحة العشرية الأولى الأقل دخلاً، التي يشكل أفرادها نحو 2.2% من عائلات يبرود، كان يبلغ وقت إجراء المسح نحو 15 ألف ليرة (أي ما يعادل 300 دولار وفق سعر الصرف السائد في تلك الفترة)، فيما وصل متوسط إنفاق الشريحة العشرية الخامسة، التي يشكل أفرادها النسبة الكبرى من سكان يبرود 30.5%، إلى نحو 32720 ليرة (أي ما يعادل 655 دولاراً). أما الشريحة العشرية العاشرة، وهي الأكثر دخلاً ويشكل أفرادها نحو 2.8% من عائلات يبرود، فقد بلغ متوسط إنفاقها الشهري نحو 78759 ليرة، أي ما يعادل 1575 دولاراً.
1.2% فقط من عائلات المدينة دخلها الشهري يقل عن 6 آلاف ليرة



يعلق أحد مواطني يبرود القاطنين حالياً في دمشق على الوضع الاقتصادي لمنطقته، فيقول إن سمة سكان يبرود أنهم لا يهتمون مطلقاً بمظاهر الغنى، فهناك مواطنون أثرياء لا يزالون يعيشون في منازل متواضعة وعادية، وهناك أصحاب مصانع ومعامل لا يستخدمون سوى سيارات عادية، لا بل نادراً ما يهتم أحد منهم بإقامة حفلة عيد ميلاد لابنه أو ابنته مثلاً. وهم لا يتأخرون في القيام بواجباتهم في إطار مشهد التكافل الاجتماعي ومساعدة ما هو موجود من فقراء، وعددهم قليل ومحدود، فمثلاً ليس هناك سوى 1.2% و2.1% من عائلات المدينة دخلها الشهري يقل عن 6 آلاف ليرة و10 آلاف ليرة على التوالي، وما بقي فإن دخلها لا يقل عن 15 ألف ليرة خلال سنوات ما قبل الأزمة.
الرقم الأخير، الذي ننشره من بين جملة بيانات إحصائية أخرى كثيرة، يشير إلى حالة الانفتاح التي عاشتها يبرود لسنوات، ومكنتها من تخريج كفاءات علمية وأدبية ومهنية رفيعة المستوى، وتحقيقها لمعدلات عالية في تحصيل أبنائها العلمي، يبين أن 70.9% من عائلات يبرود لا تفرق في التعليم الثانوي بين الذكور أو الإناث، وفقط 5.7% رأت أن الأولوية يجب أن تعطى للأبناء، ولم تختلف هذه النسب لجهة أولوية التعليم في المرحلة الجامعية، فـ 69.5% من العائلات لا تفرق بين الذكور والإناث، و7% أعطت الأولوية في التعليم الجامعي للأبناء دون البنات.
كارثة الغرباء
إذاً ما الذي حدث؟ هل هذه كانت ضريبة المطالبة بـ«الحرية والتخلص من الاستبداد»، كما يقول المعارضون؟ وإذا كان ذلك صحيحاً، فهل كان ذلك مبرراً لتدمير البنية الصناعية وسرقتها و«تطفيش» الكفاءات، وتسليم المدينة لـ«جبهة النصرة»؟
يشرح أستاذ جامعي مرموق من يبرود الأسباب التي جعلت المدينة تتحول إلى جبهة حرب وتطرف وتصدير لسيارات الموت، فيشير إلى سببين: الأول دور «الغرباء» الذين قدموا إليها مع بداية الأحداث، وحاولوا الخروج بتظاهرات حاصرها وجهاء المدينة وسكانها.
والثاني يتمثل في موقعها الحدودي مع لبنان، الذي حولها إلى ممر للمال والسلاح والمسلحين العرب والأجانب، وهذه كانت بداية النهاية لمرحلة الاستقرار التي عاشتها المدينة وحاولت الحفاظ عليها، رغم انضمام بعض أبنائها للتنظيمات المسلحة المختلفة.
ويستشهد الأستاذ الجامعي بسيطرة المقاتلين العرب والأجانب على قيادة المجموعات المسلحة وتفرعاتها، للدلالة على أن هؤلاء كانوا السبب المباشر في الكارثة التي حلت بالمدينة من جهة، ونأي معظم أبنائها تالياً عن خيار العمل المسلح، وإلا كانوا هم قادة التنظيمات المسلحة من جهة ثانية.
على النقيض تماماً، ينظر معارضون إلى المسألة، فيبرود ــــ كما يرون ــــ مثلها مثل باقي المناطق التي فضل النظام التعاطي معها بالقوة العسكرية وإخماد تجربتها الذاتية في إدارة شؤونها بعيداً عن تدخل مؤسسات السلطة، مستشهدين بتجربة المجلس المحلي التي انتهت مع سيطرة الجيش السوري على المدينة أخيراً، لكنهم في المقابل لا يملكون مبررات موضوعية لوجود مئات المقاتلين الأجانب وعلاقتهم بمطالب أهل يبرود!
ربما مع إسدال الستار على العمليات العسكرية في منطقة القلمون بشكل كامل، ستكون هناك فرصة لإعادة تجميع وقراءة وتحليل كثير من المتغيرات الفكرية والاجتماعية والديموغرافية، التي حدثت خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر الأزمة، وقلبت أوضاع القلمون ومحيطه الجغرافي رأساً على عقب.