حلمي الأول: فلسطين لم تحتل. وقع أن دُحر الانتداب البريطاني عن فلسطين عام 1948، فصار 15 أيار، ذكرى الاستقلال الوطني الفلسطيني. عمت يومها الاحتفالات، وتدفق العرب لزيارة القدس، الوقف الإسلامي الأشهر، وبيت لحم للاعتبار ذاته مسيحيا. بعد الاستقلال، بدأ الفلسطينيون العمل لإجراء انتخابات ديمقراطية. أخذت النقاشات بين التيارات الفكرية السائدة منحى كيفية التمثيل في البرلمان. وحين انتخب الناس، نجح مرشحو الثورة ضد الانتداب، هؤلاء الذين كانت أفكارهم تغيّر الصيغ التقليدية؛ وفي المقابل أبعد الإقطاعيون وأتباعهم عقابا لعمالتهم مع البريطانيين. في فلسطين، يومها، اصبحت الحياة رغيدة، وقلوب الناس متآلفة، فالمناطق الخلابة بطبيعتها عكست جمالها على نفوس الفلسطينيين، واكتشفوا بأنفسهم أمورا جميلة تميزهم عن سواهم، فلكنتهم مطعمة بنبرة قوة زائدة وأقل نعومة من الأقران العرب.
هذه الحالة ولدت لديهم شعورا بضرورة إنتاج حالة ثقافية مختلفة، وهو ما حدث بالفعل فما زالوا حتى يومنا هذا معروفون بأسماء شعرية كبيرة حفرت وجودها بالتراث الإنساني العام، وذلك لأن فلسطين غنية بموارد الإبداع فألهمتهم الكثير، وجعلت منهم الشاعر والقاص والروائي، والتشكيلي والموسيقي.
عاشت فلسطين المحررة فترات عصيبة إلى أن تآلفت مكوناتها الجديدة
الحلم الثاني: تحررت فلسطين. وسائل الإعلام نقلت صورا مباشرة لأفواج الفلسطينيين العائدين، إلا أن هذه اللحظة الفارقة بتاريخهم المأساوي الذي عاشوه في المخيمات، حولتهم إلى مواطنين لديهم وطن.
لكن، المواطنين الفلسطينيين جميعا، والذي قدر عددهم بـ 11 مليون نسمة، وجدوا أنفسهم مشتتين، وما كان يجمعهم من هم وقضية مشتركة، اصبح يفرقهم! لم يعودوا شعبا واحدا.. باتوا شعبا من ثقافات متنوعة، وبدا ان لهذا الواقع الجديد فوائد كبيرة.
إلا أن هذه الثقافات بعضها تضارب مع ثقافة الآخرين ممن كانوا أبناء قرية واحدة وعادوا إليها. فأبناء قريتي مثلا، عادوا من سوريا ولبنان وفلسطين ومن أربع أو خمس دول أوروبية. كانت اللهجات مختلفة وأسلوب الحياة مختلف، والتعبير عن الأشياء قابل للتأويل حسب البيئة الآتين منها. وقريتي في حيفا، المعتمدة أساسا على الزراعة، لم يعد أحد من أهلها يعرف كيف يستخدم المعوّل! جميعهم يقودون سيارة، إلا أنهم عجزوا جميعا عن قيادة «التراك»، والمصانع التي خلفتها إسرائيل قبل طردها من بلادنا، حار العائدون في كيفية تشغيلها. فإعادة تشغيلها وتصدير التكنولوجيا المتقدمة التي كان يصدرها الاحتلال، كان ضرورة، تماما كإعادة فتح مصانع الأسلحة الثقيلة، واستثمار مفاعل «ديمونة» للأغراض السلمية.
هكذا، عاشت فلسطين المحررة فترات عصيبة إلى أن تآلفت مكوناتها الجديدة، واستطاعت مواءمة الاختلافات، حينها، تبين أن فلسطين ستكون حالة مختلفة، لما تحمل من ثقافات متعددة يمكن استثمارها لتطوير البلاد.
فلسطين أصبحت ديموقراطية، في ظل نظام سياسي منتخب، لم يكن هناك أي مجال للتلاعب، فالجميع ثائر، والجميع خسر الكثير ليعود إلى وطنه، وكثر أتوا من مجتمعات متطورة، فلا يمكن أن تكون هناك أية ديكتاتورية في فلسطين.
أبرز الأماكن الدالة على التنوع الفلسطيني، هما المقهى والسوق، فالعراقي أو السوري أو اللبناني القادم لزيارة فلسطين وزيارة بعض أقاربه من الفلسطينيين لن يشعر بغربة على الإطلاق، فحكما سيسمع اللكنة العراقية، والشامي سيرى ياسمينا دمشقيا، واللبناني سيجد من يتأفف من الأحوال على طريقته.
فلسطين باتت جميلة، وأصبحت مستقرا للعديد من الشبان العرب، يأتونها للعمل، بدل التوجه لدول الخليج، وقد يتزوجون هنا فيحصلوا على الجنسية التي كان الكثيرون منهم يناضلون من اجلها.