في جلسة الإحاطة الخاصة بالتطوّرات في ليبيا في مجلس الأمن الدولي الأسبوع الماضي، تَحدّثت المبعوثة الأممية بالإنابة، سيتفاني ويليامز، بتفاؤل مفرط عن «الوصول إلى ليبيا الجديدة» بحلول العام المقبل، بعد إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية وإقرار الدستور. لكنّ هذا التفاؤل، الذي ولّده على ما يبدو نجاحها في إرساء وقف لإطلاق النار بين الأطراف المتنازعة، ليس سوى جزء من الصورة التي يريد العالم أن يراها عن البلاد الآن.خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، تسارعت وتيرة المفاوضات الهادفة إلى وقف إطلاق النار وإنهاء الأزمات المتعاقبة بعد الإخلال بـ«اتفاق الصخيرات» وما تبعها من حرب مستعرة بين اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وحكومة «الوفاق الوطني» والمجلس الرئاسي التابع لها بقيادة فائق السراج، وحصول كلّ منهما على الدعم الخارجي: مصرياً - خليجياً لحفتر، وتركياً - قطرياً لخصومه، لتستمرّ الحرب على مدار نحو عام ونصف عام، ويسقط فيها المئات من القتلى، عدد كبير منهم من المرتزقة المدفوعين الذين زادت أعدادهم بصورة غير مسبوقة.
ما لم تدركه ويليامز أن فشل جلسات الحوار السياسي في تونس أخيراً، إنما مردّه إلى جذور الأزمة التي لم يتمّ الالتفات إليها، والمرتبطة بالطمع في الثروات والسيطرة على السلطة. وما الدليل على ذلك إلا وصول سعر صوت الممثّلين في جلسات الحوار، التي كان يُفترض أن توافق على المرشحّين للمجلسين الرئاسي والحكومي، إلى نحو مليون دولار مقابل التصويت لشخصيات بعينها تسعى إلى السلطة التي يفترض أن تكون انتقالية. حتى اليوم، لم تدرك الأمم المتحدة طبيعة المجتمع الليبي القائم على القبلية والعشائرية، فضلاً عن الخلاف الجوهري في توزيع الثروات ولا سيما البترولية، وهو ما يعرقل أيّ صيغة توافقية بسبب تضارب المصالح ووجود أطراف مستعدّة لإنفاق ملايين الدولارات من أجل الحكم لحمايتها ولتصعيد حلفائها في المناصب. وأكثر ما يجلّي تلك الحالة الخلاف الحالي حول عائدات النفط وما أنفقه «مصرف ليبيا المركزي» خلال السنوات الماضية، وكلّها ملفات فساد شائكة ستطاول قطاعاً عريضاً من المسؤولين منذ عام 2012 حتى اليوم.
قد لا يكون التصوّر الأممي لإنهاء الأزمة بانتخابات 2021 قابلاً للتطبيق


خارجياً، لا تبدو الصورة مغايرة؛ إذ إن كلاً من العواصم المعنيّة بالملف الليبي تتحرّك في اتجاه مختلف. مصر، مثلاً، تريد انتزاع قرارات من البرلمان الليبي (بصفته الجهة الوحيدة المنتخَبة) تصبّ في مصلحتها. وفي سبيل ذلك دعت رئاسة البرلمان المصري، البرلمان الليبي المنعقد في طبرق برئاسة عقيلة صالح، إلى عقد جلسة استثنائية في القاهرة، بعد جلسة مماثلة عُقدت في المغرب، في خطوات تستهدف توحيد المجلس بشقَّيه في طرابلس وطبرق. في المقابل، لا تزال التحرّكات التركية قائمة، سواء بإرسال السلاح والمرتزقة إلى مصراتة، أو بالضغط على «الوفاق» كي لا تُقدّم تنازلات في شأن الاتفاقات المُوقّعة مع أنقرة في السنوات الأخيرة، وفي مقدّمتها إعادة الإعمار وترسيم الحدود البحرية، وهو ما يخالف الاتفاقات المبدئية بين الأطراف، وعلى رأسها الاستعداد لإجلاء المرتزقة كلياً.
مع ذلك، لم تصل التناقضات حدّ عودة الاشتباكات العسكرية، التي يبدو أنها مُجمّدة ريثما يتمّ احتواء الغضب الشعبي من خلال تحصيل عائدات يمكن بواسطتها تحسين أوضاع المواطنين أوّلاً، ومن ثمّ يكون استكمال المواجهات العسكرية أو التوجّه نحو الحلول التفاوضية، ما يعكس جزءاً من عملية ترتيب الأوراق الجارية في الخفاء، والتي يبدو أن أحد عناوينها السعي لتسليم القيادة العسكرية المقبلة للبلاد لنجل خليفة حفتر، صدام. ومع أن لا رضى كبيراً عن صدام حفتر، خاصة بعد التلميحات إلى تورّطه في مقتل محامية انتقدته ووالده قبل أيام من اغتيالها في بنغازي، يظهر الابن في أكثر من موقع عسكري وهو يتفقّد القوات، في ظلّ الحديث المتواصل عن معاناة أبيه من أمراض متعدّدة، الأمر الذي يمهّد لترؤسه المؤسسة العسكرية بعد توحيدها، وهي العملية التي ترعاها الأمم المتحدة الآن، ولم تحرز فيها تقدّماً كبيراً بسبب إشكالية وضع المرتزقة، ورفض حفتر الأب دمج قوات الطرفين.
هكذا، لن يكون التصوّر الأممي لإنهاء الأزمة الليبية بانتخابات 24 كانون الأول/ ديسمبر 2021 (بعد ست سنوات من «الصخيرات») قابلاً للتطبيق، خاصة أن الحوار يواجه مخاضاً عسيراً في التوافق على شخصيات المجلس الرئاسي ورئيس الوزراء، مع أنها خطوة أولية من اتفاق أوسع وأشمل يجب ضمان الحفاظ عليه كلّياً، وإلزام الخاسرين بسببه ألّا يتمردوا عليه حتى لا تفشل إعادة بناء النظام السياسي للدولة كما فشلت بعد «الصخيرات».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا