كانت الليلة الأخيرة في شهر آذار/ مارس 1970 واحدة من أكثر الليالي حزناً في حياة الصادق المهدي. فقد جيءَ به من معتقله في مدينة شندي إلى مطار الخرطوم مخفوراً مقهوراً. ووجد الزعيم السوداني على مدرج الطائرة العسكرية التي ستقلّه إلى منفاه المصريّ، أمّه السيدة رحمة، وزوجته السيدة سارة. فاندهش لوجودهما في هذا المكان، ولم يكن أحد قد أنبأه مسبقاً بأن النميري سمح للسيّدتين بمرافقته في رحلته القسرية إلى القاهرة. بدت الأم والزوجة شاحبتين كسيفتين في ثوبَيهما الأبيضين. وعانقهما الصادق بإشفاق، فهو لم يتسنَّ له أن يراهما منذ أن اندلعت الأحداث الدموية في الجزيرة أبا. وبعدما صعد المهديّ وأهله إلى طائرة "الأنتونوف أن 12" فوجئ بوجود رفيق على متنها ما توقع أن يراه في هذه الرحلة العجيبة. ولم يكن ذلك الرجل الذي شُحِن هو الآخر إلى المنفى المصريّ، سوى عبد الخالق محجوب زعيم "الحزب الشيوعي السوداني". وافترّت شفتا زعيم الأنصار عن ابتسامة خفيفة وهو يرى أن الديكتاتور ادّخر له "رفيقاً" ليؤنسه في سفرة المنفى. وتقدّم المهديّ نحو محجوب ومدّ يده مسلّماً بأدب على الرجل، وعلى زوجته السيدة نعمات التي تجلس بجواره. ثمّ بادره قائلاً: "وقد يجمعُ الله الشتيتيْن بعدما/ يظنّان كلَّ الظنِّ أن لا تلاقِيا". عندئذ تبسّم محجوب، ثم تأمّل قليلاً، وأكمل منشداً: "ولم أرَ مثلي من يُساق لحتفه/ إليكَ عنّي لا يكُنْ بكَ ما بِيَا".
الأسرة المنكوبة وحكاياتها المنكودة
لم يزل شبح الحتف يتراقص فوق هامة الصادق المهديّ وأمام ناظريه منذ أن نشأ في بيت أبيه يتسمّع قصص مصارع أجداده. ذلك أن الإنكليز لم يتوانوا البتّة عن التنكيل بآل المهدي واستئصال شأفتهم. وبلغ بهم البغي حدّاً كادوا فيه يبيدون سلالة المهديّ بأكملها. وكثيراً ما استمع الصادق في صباه إلى حكايات جدّه عبد الرحمن وهو يروي قصة عذابه على يد الغزاة وأتباعهم. وكيف شاهد بعينيه، وهو لمّا يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً، جنوداً مصريين يرمون في نهر النيل بجثّتَي أخويه الفاضل والبشرى بعدما أثقلوهما بالحجارة. وكيف ساق اللورد كتشنر كلّ ذكور سلالة المهديّ أسرى إلى مدينة رشيد شمال مصر، ما عدا عبد الرحمن، فقد ظنّوا أنه لن يلبث حتى يموت بسبب الجراح التي أثخنت جسده الصغير في معركة الشكابة. كذلك، نشأ الصادق المهديّ مثقلاً بأحاديث المظالم التي لحقت بأسرة اعتقد جدّها الأكبر يوماً في نفسه أنه الإمام المهديّ المنتظر، وأنّ النبي محمداً يلتقيه ويحدّثه ويستخلفه على أمّته ويأمره أن يكمّل رسالته، فمن آمن به ــــ بعدئذ ــــ فقد عصم نفسه، ومن لم يؤمن فقد كفر.
كثيراً ما استمع الصادق في صباه إلى حكايات جدّه عبد الرحمن وهو يروي قصة عذابه على يد الغزاة


ولم يدْرِ الصادق المهدي لِمَ خطرت له، وهو في الطائرة التي تقلّه إلى منفاه، صورة جدّه الإمام عبد الرحمن؟! لم يكن الإمام عبد الرحمن عالماً، وكان قصارى علمه حفظ آيات من القرآن. ولم يكن ابنه الإمام الصدّيق (والد الصادق) أكثر علماً من أبيه. لكنّ الجدّ وأبناءه ورثوا مكانة ووجاهة في عيون أنصارهم سمت بهم إلى مقام الإمامة، من دون أن يكون لهم من شروط الإمامة نصيب مذكور. ولم يلبث البريطانيون طويلاً حتى استوعبوا تلك المنزلة الخاصة التي تحتلّها السلالة في قلوب الأنصار، فسعوا إلى الاستفادة من هذا الإرث ليخدموا به مصالحهم. وسرعان ما تَبدّلت السياسة البريطانبة تجاه آل المهديّ من التعسف والأذى إلى الاستمالة والمصانعة. وسريعاً ما وجد الإمام عبد الرحمن أنه صار بين يديه إقطاع ضخم يدرّ عليه من المال خيراً كثيراً. أكان ذلك سبب ولائه ووفائه للإمبراطورية التي قضت يوماً على دولة أبيه وقتّلت أنصاره؟ يُروى أن عبد الرحمن المهديّ زار لندن مرة واحدة في حياته. وكان ذلك أثناء احتفالات الإمبراطورية بالانتصار في الحرب العالمية الأولى. وأحضر البريطانيون وفوداً من أعيان المستعمرات ليباركوا للملك جورج الخامس نصره العظيم. واختير عبد الرحمن المهدي ضمن وفد السودانيين، واختير معه علي الميرغني وكان هو الآخر من صنائع الإنكليز والمصريين. والميرغنيّ هذا قاتل ومعه فئة من الطائفة الختمية، ضمن جيش الغزاة ضدّ أبناء جلدته. فلم يكن غريباً حينئذ أن يختاره البريطانيون، وأن يجعلوه رئيساً لوفد السودانيين. وأحبّ عبد الرحمن المهدي، وهو يرى حظوة الميرغني عند الإنكليز، أن يصنع شيئاً يلفت به أنظار الملك. وحينما أتى دوره لتهنئة صاحب الجلالة قدّم سيفاً فخماً للملك، وهو يقول له: "هذا سيف أبي الذي حارب به بريطانيا العظمى أُقدّمه لكم، يا جلالة الملك، عربون إخلاص". وأجابه جورج الخامس قائلاً: "بل يبقى لك ولذرّيتك من بعدك كي تحاربوا به أعداء الإمبراطورية".

«ما أتى المستعمر إلى السودان إلا في عربة يجُرّها مصريون كالبهائم!»
ظلّ الصادق المهديّ مكتئباً قلِقاً طوال ساعات السفر في طائرة الشحن المصرية. لم يكن راغباً في الذهاب إلى مصر، ولو خيّّروه لاختار منفاه في أيّ بلد آخر عدا مصر. أتراه ورث في نفسه أوزار ضغائن أسرته القديمة ضدّ الحكام المصريين؟! بلى. إن دماء أبناء طائفته ما زالت اليوم طريّة ندية في الجزيرة أبا. وجثث المئات من أنصاره الذين أبادتهم طائرات مصرية¹، لم تبرح ملقاة في الفلاة تأكلها الضواري. ثمّ إن مصرع عمه الهادي بالأمس ما فتئ يخنق صدره. صحيح أنهما اختلفا طويلاً، ولكنّ الهادي ما هو إلا عمّه، وهو لحمه ودمه. وهل يصير الدم، أيها الصادق، ماءً؟! يقولون إن المصريين أسهموا بقتله²، وإن عبد الناصر أوفد لهذه المهمة نائبه أنور السادات، ورئيس جهاز مخابراته أمين هويدي! ويسأل الصادق نفسه بحيرة: لماذا ألحّ عبد الناصر على النميري أن يبعثه إليه؟! لم يكن الرئيس المصري يحمل، في يوم من الأيام، ودّاً لآل المهدي. فما الذي يجعله يسعى في إنقاذه من بطش النميري؟! نعم، إن ما يدفعه لحماية محجوب واضح. فالمودّة القديمة بينهما. وصلاتها تمتدّ منذ أيام السويس. ألعلّ تقديراً خاصاً لشخصيته الدمثة هو ما جعل ناصر يشمله بمظلّتة، بيد أن المظلّة المصرية لم تشمل عمّه الهادي أبداً! كان عبد الناصر يكره الهادي. وكان الأخير يبادله كرهاً بكره. وكان ناصر يحتقر صدّيق (والد الصادق)، ويحتقر أباه عبد الرحمن منذ أن انكشفت فضيحة صلاتهما بالإسرائيليين³.

الإنكليز لم يتوانوا البتّة عن التنكيل بآل المهدي واستئصال شأفتهم


ولا شك أن النفور من المصريين كان ديدن آل المهديّ أيضاً. فلم ينسوا قطّ أن جيرانهم الشماليين هم الطامعون دوماً في تملّك بلادهم. إن هذه هي سياسة مصر كلّما قويت شوكتها، منذ أيام الفراعنة. ولقد كان يحلو للإمام عبد الرحمن المهدي أن يردّد متفكّهاً: "إن المستعمر لا يأتي إلى السودان إلا في عربة يجُرّها مصريون كالبهائم!". وفي المقابل، لم توفّر الصحافة المصرية يوماً سهماً من سهامها من دون أن تطلقه على آل المهديّ. فهم "صنيعة الإنكليز"، وهم "الإقطاعيون الجشعون الذين يوالون المستعمر أملاً بأن يسلّمهم عرش بلاد السودان"، وهم الذين "يكيدون لمصر ويطمعون في سلب جزء من أرضها" (يقصد بذلك مثلث حلايب).

■ ■ ■

استقرّت عجلات طائرة الشحن المصرية أخيراً فوق مدرج مطار ألماظة. وفُتِح باب الطائرة. فهبط منها الرجلان: المهدي ومحجوب. ووجدا في استقبالهما رجلاً أنيقاً مبتسماً، قدّم نفسه لهما بصفته يعمل سكرتيراً في رئاسة الجمهورية المصرية. وأخبرهما أنه مكلّف بخدمتهما. حملت الرجلين وعائلتيهما سيارتان إلى منطقة العباسية. وهناك مُنحت للمهدي وأسرته فيللا جميلة كي يقيم فيها. وفي اليوم التالي، جاء إليه سامي شرف، مدير مكتب عبد الناصر، ومعه محمد حسنين هيكل، وأخبراه بأن الرئيس عبد الناصر يقدّره تقديراً خاصاً، وأن مصر هي بلده التي يعيش فيها كما يشاء، وأن بيت عبد الناصر ومكتبه مفتوحان له، فهو مُرحّب به متى أراد أن يزور الرئيس. وأضاف الزائران إنه لا يجب أن يخطر في باله أنه في منفى. فإن أحبّ أن يرجع إلى السودان فسيرجع فوراً. وتبسّم الصادق المهدي، وقال بحصافة: "إنني هنا سعيد بين إخوتي وأهلي. وإن مصر والسودان بلد واحد ذو تاريخ وتراث متصل".

الهوامش:
1- ردّد الصادق المهدي كثيراً أن طائرات مصرية شاركت بالفعل في قصف الجزيرة أبا. وحينما نعى حسني مبارك بعد موته، لم ينس المهدي أن يشير إلى دوره في "قصف مواطنين سودانيين عزّل في الجزيرة أبا". لكن الروايات عن دور الطيران المصري في أحداث الجزيرة أبا مبالغ فيها. فالدور الأساسي في قمع تمرّد الأنصار قام به سلاح الجو السوداني. وربما عاون المصريون بتوفير طائرات من طراز "تبولوف"، ولا شك أنهم خشوا أن تنفلت الأمور في السودان، ويعود أنصار المهدي إلى سيرتهم الأولى في العداء لمصر.

2- أشيع كثيراً أن لمصر دوراً ما في اغتيال الهادي المهدي. وزُعِم أن سلّة من المانغو فيها قنبلة دُسّت للرجل وقضت عليه. لكن الواقع هو أن الرجل مات بالرصاص، بعدما قُبض عليه قرب مدينة الكرمك، وهو هارب نحو إثيوبيا، ثمّ صدرت أوامر النميري حاسمةً للتخلّص منه.

3- اعترف الصادق المهدي في حوار مطوّل له بثّته قناة "الجزيرة" ضمن برنامج "شاهد على العصر" بعلاقات والده صدّيق المهدي مع الإسرائيليين، وباللقاءات التي تمّت معهم في سفارة الكيان الصهيوني في لندن. وتَعلّل الصادق المهدي بأن جميع القادة العرب ــــ بمن فيهم عبد الناصر نفسه ــــ اتصلوا بالإسرائيليين، وأنه لا قيمة لتلك الاتصالات ما دامت لم تنته إلى نتائج واضحة. لكنّ مُحاور الصادق المهدي لم يسأله عمّا كشفه موشيه شاريت في مذكّراته عن زيارة قام بها جدّه عبد الرحمن المهدي إلى إسرائيل، حيث التقى بن غوريون وغولدا مائير. وكيف حاول عبد الرحمن المهدي أن يشرح للإسرائيليين أن لديهما عدواً مشتركاً هو جمال عبد الناصر.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا