ضاقت السعودية ذرعاً باستعصاء الخلافات بين وكيلَي تحالف العدوان على اليمن، المُتمثّلَين في ما يُسمّى "الشرعية" و"المجلس الانتقالي الجنوبي". خلافاتٌ كشف استعارها في الشهور الأخيرة عجزاً كبيراً لدى الرياض عن إدارة المناطق التي تُسمّى محرّرة في المحافظات الجنوبية. إلا أنه في ظلّ الاستحقاقات العالمية والتحدّيات الإقليمية المتسارعة، لم يعد بإمكان المملكة التسويف أو إدارة الظهر لما يحدث في تلك المحافظات، ولا سيما أن قوات صنعاء باتت على عتبة تحوّلات مهمّة في مسار الحرب، بوصولها إلى أبواب مدينة مأرب الحيوية جدّاً في موازين القوى، والتي تتعدّى تأثيرات السيطرة عليها الداخل اليمني إلى الإقليم، فضلاً عن الخشية من تبدّل الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، بما فيها اليمن.بناءً عليه، بدت السعودية، بإعلانها أول من أمس استكمال الترتيبات اللازمة لتنفيذ "اتفاق الرياض" المُوقَّع بين "الانتقالي" وحكومة الرئيس المنتهية ولايته عبد ربه منصور هادي (تنفيذ الإجراءات الأمنية والعسكرية في خلال أسبوع ومن ثمّ تأليف حكومة من 24 وزيراً)، ساعيةً إلى تصفير الكثير من المشاكل العالقة، وإعادة رسم حدود العلاقات والأدوار بين الوكلاء وفقاً للمعطيات الجديدة، وعنوانها ضرورة التفرّغ للتهديد الإيراني في الإقليم. لكن ذلك لا يعني أن المشكلة انتهت؛ إذ إن فقدان الثقة بين الأطراف المحليين، وتضارب المصالح بين الرعاة الإقليميين، يبدوان أكبر من قدرة السعودية على احتواء الموقف من خلال تطبيق "اتفاق الرياض" ومندرجاته، هذا إذا حَسُنت أصلاً نيّات طرفيه، وهو أمر مشكوك فيه.

ترغب واشنطن في توحيد صفوف المكوّنات اليمنية المنضوية تحت لواء تحالف العدوان (أ ف ب )

وبعد أكثر من سنة من التعثّر والفشل، دفعت التطورات الأخيرة المملكة إلى الزجّ بكبار مسؤوليها للدفع باتجاه تطبيق "اتفاق الرياض". وفي هذا الإطار، زار أواخر الشهر الماضي نائب وزير الدفاع السعودي، خالد بن سلمان، الرئيس المنتهية ولايته، في مقرّ إقامة الأخير في الرياض، حيث أثار، آنذاك، غضب مسؤولي ما يُسمّى "الشرعية"، على خلفية تغريدة له على "تويتر" بعد لقائه هادي، أعلن فيها أنه شدّد أمام الأخير على ضرورة المضيّ قُدُماً في تنفيذ "اتفاق الرياض" لـ"تعزيز السلام والاستقرار"، و"وضع مصلحة اليمنيين فوق كلّ الاعتبار". وهو ما اعتُبر من قِبَل أولئك المسؤولين نوعاً من "الوصاية"، من خلال فرض إملاءات في شأن تأليف الحكومة قبل تنفيذ الشق الأمني، فيما أفادت مصادر مطّلعة بأن هادي استمهل ابن سلمان أسبوعين لاستشارة مجلس مستشاريه وكبار مسؤولي حكومته.
وليست واشنطن، هي الأخرى، بعيدة عن تلك التطوّرات، إذ تتحرّك الإدارة الحالية من منطلق القلق الشديد على حليفتها (السعودية) في المنطقة، في ظلّ الاختلال في موازين القوى لمصلحة قيادة صنعاء. وفي بداية الأسبوع الحالي، زار مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شينكر، ومعه السفير الأميركي لدى اليمن كريستوفر هنزل، نائب الرئيس المستقيل، علي محسن الأحمر. وبحسب المعلومات، فقد طلب شينكر، في خلال اللقاء، التعجيل بتطبيق "اتفاق الرياض"، مبدياً رغبة بلاده في توحيد صفوف المكوّنات اليمنية المنضوية تحت لواء تحالف العدوان لمواجهة "التحدّيات المشتركة"، ومن بينها "محاربة الإرهاب"، ووقف "مطامع إيران في المنطقة، وحماية الممرّات المائية والدولية.
ويبدو أن كلا الطرفين تَعرّض لضغوط شديدة للموافقة على تنفيذ الاتفاق، وهذا ما أكده مسؤولون منهما، إذ قال مستشار هادي ووزير الإعلام في حكومته، معمر الإرياني، إن الرئيس المنتهية ولايته قاوم ضغوطاً شديدة لإجباره على إعلان تأليف الحكومة قبل تنفيذ الشقّ العسكري والأمني. على أن "الانتقالي" ظهر أكثر تضرّراً من الاتفاق بصيغته الحالية، بعدما رفض مراراً تقديم الأمني - العسكري على السياسي، على اعتبار أن ذلك من شأنه قضم المكاسب التي حَقّقها في معاركه العام الماضي على غريمه، حزب "الإصلاح" (الإخوان). وفي هذا الإطار، غرّد الناطق باسم "الانتقالي"، نزار هيثم، على "تويتر"، بالقول: "لأجل الجنوب وأهله الكرام يَرخُص كلّ غالي، لأجل السلام فلْنؤجّل التباينات، وفي سبيل حقن الدماء سنتنازل ونتصالح ونتقارب، وسنعمل يداً بيد وكتفاً بكتف".
وسبق التحرّك السياسي الأخير اتخاذُ السعودية جملة إجراءات ولّدت فراغاً كبيراً في المحافظات الجنوبية، سرعان ما تَحوّل إلى فوضى وتدهور أمني وانهيار حادّ للمنظومة الاقتصادية. ومن بين تلك الإجراءات:
- ممارسة ضغوط كبيرة على قيادة "الانتقالي"، وحجز قياداته السياسية والأمنية في الرياض، ومنع عودتهم إلى عدن أو بقية المحافظات الجنوبية. وهو إجراء مَنَع التواصل بين قيادات المجلس وقاعدته الشعبية.
- إثارة التناقضات بين قيادات "الانتقالي"، من خلال تغذية النعرات المناطقية والقبلية. وفي هذا السبيل، عملت السعودية على استمالة العضو في "هيئة مجلس الرئاسة" في "الانتقالي"، والمشرف على ميليشيات "الحزام الأمني"، وكيل محافظة عدن الشيخ السلفي عبد الرحمن شيخ، الذي كان محسوباً على الإمارات سابقاً. وفي نهاية الأسبوع الماضي، استفاق أهالي عدن على اشتباكات بين مكوّنات وفصائل تابعة للمجلس، ليتَبيّن أن ما جرى عبارة عن رسالة سعودية مشفّرة من قِبَل جناح يقوده عبد الرحمن شيخ، بمعاونة أعضاء آخرين في "هيئة رئاسة المجلس". كذلك، تجلّى، في خلال الشهور الماضية، عمق الاختلافات بين القيادات المنتمية إلى منطقة يافع في محافظة لحج، وتلك المنحدّرة من محافظة الضالع، وكلتاهما تُعتبران الخزان البشري الرافد لـ"الانتقالي".
- إغراق العاصمة الاقتصادية لليمن، عدن، وبقية المحافظات الجنوبية، في الفوضى والفساد، بغية إظهار "الانتقالي" في مظهر العاجز والفاشل، والمتسبّب، من خلال تمرّده على "الشرعية"، في انهيار خدمات الكهرباء والمياه والصرف الصحّي والانفلات الأمني المريع، وحرمان الموظفين من رواتبهم للشهر السادس على التوالي، والانهيار الحادّ في العملة الوطنية، فضلاً عن انتشار العصابات المسلحة وصراعات الفصائل.
والجدير ذكره أن هذه ليست المرّة الأولى التي يعلن فيها "التحالف" الاتفاق على تنفيذ "اتفاق الرياض" المُوقّع في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، إذ في كلّ مرة، كان الخلاف حول أسبقية الشق الأمني على السياسي أو العكس يحول دون تنفيذ الاتفاق: أراد "الانتقالي" تأمين موقعه السياسي قبل التخلّي عمّا يمنحه أفضلية عسكرية في أجزاء من جنوب اليمن، بينما تطلّع هادي إلى دمج قوات المجلس عسكرياً وأمنياً ضمن قوات الحكومة قبل أن يتنازل عن أيّ سلطة سياسية. وكانت المملكة أعلنت، في 29 تموز/ يوليو الماضي، ترميم الاتفاق من خلال ما أُطلق عليه "الآلية التنفيذية" لتسريع عملية التنفيذ، والتي ركّزت على التزامن في تطبيق الشقين السياسي والعسكري، وموافقة الجانبين على ذلك.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا