رام الله | وصل التضييق المالي بالكمّ والشروط إلى أقصى درجاته على السلطة الفلسطينية، التي تبدو كأضخم منظّمة مجتمع مدني في العالم. وبالتوازي، امتدّ الحصار المالي هذه السنة ليطاول المنظمات والجمعيات بأوصافها شتّى، خاصة التي تتلقى دعماً أوروبياً. الشروط التي تباركها إسرائيل والولايات المتحدة، تستهدف العمل المقاوم من زاوية جديدة، إذ يُستثنى كلّ مَن له علاقة بالفصائل من أوجه الصرف تحت ذريعة «مكافحة الإرهاب». وسبق ذلك إدراج فصائل بعينها مع أذرعها المسلّحة على «قوائم الإرهاب» للاتحاد الأوروبي، وهي «حماس» و«كتائب القسام»، و«الجهاد الإسلامي» و«سرايا القدس»، و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، و«فتح» و«كتائب شهداء الأقصى»، و«الشعبية - القيادة العامة».بند «الإرهاب» بحدّ ذاته ليس جديداً على الأوروبيين، الذين كانوا آخر المشترطين على منظّمات «المجتمع المدني» الفلسطينية؛ فهو موجود منذ عام 2001 لكنه لم يشمل المؤسّسات الفلسطينية إلّا في تموز/ يوليو 2019، حين جاء في الملحق الثاني للشروط العامّة للمنح المُقدّمة من الاتحاد. والبند المعروف بـ«1.5bis» يَشترط على المستفيدين من المنحة والمتعاقد معهم «التأكد أن أسماء المتعاقد معهم الفرعيين والأفراد بمن في ذلك المشاركون في ورشات العمل و/أو التدريبات، والأطراف الثالثة ممن يتلقون دعماً مالياً، غير واردة في قوائم إجراءات الاتحاد الأوروبي التقييدية». وهذه الإجراءات مفروضة على الدول والكيانات والأفراد المدرجة أسماؤهم في قوائم العقوبات الأوروبية، وفيها مجموعة من عمليات الفحص والتدقيق الأمني قبل تنفيذ المشاريع وبعدها وأثناءها، للتأكد من أن الأموال لا تذهب مباشرة أو غير مباشرة إلى مَن يراهم الاتحاد «إرهابيين».
بعبارة أخرى، تعني الإجراءات المستجدّة سحب الاعتراف بمشروعية الشعب الفلسطيني في ممارسة نضاله ضدّ الاحتلال حتى على الأرض المحتلة عام 1967، علماً أن غالبية العائلات في المناطق المعنيّة لديها شهداء وأسرى عدا الانتماء السياسي التقليدي إلى الفصائل، وهذا يصعّب تنفيذ المشاريع، بل كأن تلك المنظمات باتت ملزمة إرسال تقييم أمني عن العاملين والمستفيدين من برامجها. إثر هذه الشروط، انطلقت قبل نحو عام «الحملة الوطنية لرفض التمويل المشروط» رفضاً للشروط التي ترى منظمات أهلية أنها غير مقبولة، وبقيت من ذلك الوقت تطالب بالدعوة إلى إزالتها من عقود التمويل والاتفاقات. كما وجّه الراحل صائب عريقات (بصفته أمين السر لـ«اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير») بداية 2020 رسالة إلى «الممثّلية الأوروبية العليا» حول فرض المادة «1.5bis» في عقود التمويل مطالباً بإزالتها، فيما لم يكن للسلطة أيّ دور يُذكر، خاصة أنها عبر «سلطة النقد» خاضعة لهكذا شروط وتستجيب لها من مثل شروط «الوكالة الأميركية التنمية» (USAID).
لم تساهم السلطة في مساعدة المنظّمات على رفض الشروط الأوروبية


ومع الانتشار المفرط لمنظّمات «المجتمع المدني» في الضفة، وإفراغ الجهد الشعبي التطوّعي من مضامينه بتحويله إلى قضايا حقوقية بمعزل عن وجود الاحتلال، بل الالتزام بأولويات الجهات المانحة ومواضيعها المطروحة حتى إن لم تكن قضايا ذات أولوية أو تساهم في التنمية، يبرز السؤال عن الجهات التي تساوقت مع هذه الشروط وتواطأت بالتوقيع عليها وقبولها من أجل استمرار الدعم، خاصة مع ترحيب منظّمات، بعضها معروف، برسالة توضيحية للاتحاد الأوروبي في نيسان/ أبريل الماضي، علماً أن هذه الرسالة وصلت إلى «شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية» (PNGO)، ومضمونها التشديد على التزام المادة الجديدة.
لكن «الحملة الوطنية لرفض التمويل المشروط» رفضت «رسالة التوضيح» الأوروبية، بل رأت أن الرسالة تفتقر إلى أيّ قيمة قانونية كونها «رسالة توضيحية» وليست جزءاً من العقود، كما أنها «تذكر حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بوصفه مسعى وليس حقاً، ولا تعترف بحقه المشروع في المقاومة»، مضيفة: «تؤكد الرسالة الصيغة الملزمة للمادة الخلافية (1.5bis) وللإجراءات التقييدية المتمثلة في فحص الفلسطينيين أمنياً». النقطة الأهمّ التي أشارت إليها الحملة هي أن الرسالة الأوروبية لم توضح كيفية التفريق بين الأحزاب الفلسطينية المدرَجة على قائمة عقوبات الاتحاد، وبين الأفراد المنتمين إليها، كما أنها لم تحمل ضمانة بأنه لن يُستبعد الأفراد الذين من الممكن أن يكونوا منتفعين أو مورّدين أو أعضاء مجالس إدارية أو أعضاء جمعية عامة للمؤسسات أو من كوادرها التنفيذية... من دائرة الاستفادة من التمويل. في المحصّلة، وافقت نحو 14 منظّمة على الشروط الأوروبية، منها منظّمات ترأسها حنان عشراوي التي أثارت استقالتها من «اللجنة التنفيذية» ضجّة في المدة الماضية، ولا سيما مع وجود شاغر مُلحّ لعريقات يرى مراقبون كثر أن عشراوي كانت تطمح إلى ملئه، الأمر الذي يرفضه رئيس السلطة، محمود عباس، الذي أقالها لكن بصورة الاستقالة الطوعية.



آثار ترامب مستمرّة في «الأونروا»
يبدو أن الأزمة المالية التي تمرّ بها «وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى» (الأونروا)، جرّاء قرارات إدارة دونالد ترامب المنهجية، لا تزال تبعاتها تَظهر دورياً في أماكن عملها الخمسة، ولا سيما غزة وأخيراً الأردن. ففي الأسبوع الماضي، احتدم الخلاف بين اتحاد العاملين في الوكالة داخل المملكة، وبين إدارة الوكالة، إثر قرار الأخيرة سحب زيادات الموظفين والاستغناء عن 30% منهم وتخفيض خدماتها وتجميد بعضها، لكنها سرعان ما تراجعت عن ذلك. وعادة تشهد هذه الخلافات تدخلاً مباشراً من الخارجية الأردنية ووزيرها أيمن الصفدي، الذي التقى قبل أيام المفوض العام للوكالة، فيليب لازاريني.
طبقاً لمراقبين، تستعد عمّان لإعطاء الأولوية لملف «الأونروا» عند التئام المكتب البيضاوي لجو بايدن، لأنها معنيّة باستدامة عمل «الأونروا» والتخفيف من ضغوط اللاجئين على الدولة، خاصة بعد الوضع الحرج لملف تمويل اللاجئين السوريين الذي حصلت فيه على 33% فقط من خطّة الاستجابة. كما وجّه الصفدي «نداءً مشتركاً لدعم الوكالة»، واصفاً وضعها بأنه «مقلق وخطير للغاية»، مستعرضاً مع لازاريني الاستعدادات للمؤتمر الدولي لحشد الدعم بسعي أردني وسويدي لعقده العام المقبل بعدما أقرّته «مجموعة ستوكهولم» خلال حوارها الاستراتيجي، ومحذراً في الوقت نفسه من أن عجز الوكالة عن مهماتها «ستكون له انعكاسات كارثية على اللاجئين... وتردّدات في المنطقة برمتها».