لم يكن مفاجئاً إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مملكة المغرب رابع دولة عربية تُوافق على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. فالمغرب، بخلاف الإمارات والبحرين والسودان وحتى الأردن ومصر، تربطه بإسرائيل علاقات سرّية قديمة، منذ ستينيات القرن الماضي. ومع إعلان التطبيع أخيراً، طفت على السطح العديد من التساؤلات، لعلّ أبرزها تلك المتّصلة بدور الجالية اليهودية في المغرب في تعزيز تلك العلاقات التاريخية. يضمّ المغرب أكبر جالية يهودية في شمال أفريقيا، يُقدّر تعدادها بحسب الأرقام الرسمية بـ2500 نسمة. وقد هاجر معظم اليهود المغاربة إلى إسرائيل بعدما كانوا يُمثّلون في أربعينيات القرن الماضي حوالى 10% من المجتمع المغربي. أمّا إسرائيل فتضمّ قرابة مليون يهودي مغربي، اعترف بهم المغرب في عام 2016 كثاني أكبر جالية له في العالم بعد فرنسا. ويحتفط اليهود المغاربة في إسرائيل بجنسيّاتهم، وهو ما يناقض الفصل الـ19 من قانون الجنسية المغربية الذي يُسقط الجنسية عن أيّ مواطن يخدم في جيش أجنبي.
على خلفية التاريخ اليهودي المغربي، والثقافة المشتركة مع يهود إسرائيل، تَطوّرت وتَعمّقت في ما بين الأخيرين وبين اليهود المغاربة علاقات مدنية وثقافية. وهي صلات سبقت إقامةَ المغرب علاقات دبلوماسية مع إسرائيل عام 1994، ولم تتأثّر بقطعها في عام 2000 على إثر اندلاع الانتفاضة الثانية، الأمر الذي مَثّل لاحقاً "جسر عبور" يربط الرباط بتل أبيب. هذا ما أشار إليه رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، في كلمة ألقاها بعد إعلان التطبيع، حيث قال إن "هناك علاقات عميقة بين المغرب وإسرائيل والشعب اليهودي، وقد هاجر مئات الآلاف من أفراد هذه الجالية إلى إسرائيل، وهم بمثابة جسر حيّ في العلاقات بين البلدين. وهذا يشكّل الأساس المتين الذي نبني عليه العلاقات الجديدة".
لقد عاش اليهود في المغرب منذ آلاف السنين، وازداد عددهم بطرد يهود إسبانيا إلى هذا البلد. كما نشأت في المغرب مجتمعات يهودية مزدهرة، ساهمت في تعزيز اقتصاد البلاد، وكان أبناؤها من أكثر الفئات تعليماً وثقافة، حتى أصبحت لهم مكانة وخدموا في بلاط الملوك. وخلال الحرب العالمية الثانية، تدخّل الملك محمد الخامس لحماية اليهود من حكومة فيشي الفرنسية التي تعاونت مع النظام النازي. وباستقلال المغرب عام 1956، تقلّد الوزير اليهودي، لينون بن زاكي، رأس الهرم الإداري والمجلس الاستشاري للملك محمد الخامس، الذي كان له، على رغم ذلك، موقف رافض لهجرة اليهود إلى فلسطين المحتلة. وبتسلّم الملك الحسن الثاني العرش في عام 1961، بدأ العمل السرّي مع إسرائيل على السماح لليهود بالهجرة.
في دراسة إسرائيلية نُشرت في عام 2018 بعنوان "العلاقات الإسرائيلية المغربية: التعاون من الجذور"، يَرد أن أهمّ العناصر التي ستساهم في تعزيز العلاقات بين الجانبين هو ارتباط اليهودي المغربي بثقافته، والذي سيسمح بعلاقة تقوم على "الهُوية والقيم المشتركة". وتحت ستار "السلام والتعايش"، نشأت بين اليهود المغاربة وإسرائيل علاقة أساسها الثقافة المشتركة، وشمل ذلك مجالات عديدة كالتراث اليهودي المغربي والموسيقى والفنّ والرياضة. وتُعدّ العلاقات السياحية التي بدأت في ثمانينيات القرن الماضي من أهمّ الروابط المدنية، إذ زار حوالى 50 ألف سائح إسرائيلي المغرب في عام 2019 على الرغم من عدم وجود رحلات جوّية مباشرة.
تحت ستار «السلام والتعايش»، نشأت بين اليهود المغاربة وإسرائيل علاقة أساسها «الثقافة المشتركة»


وللنخب السياسية والاقتصادية اليهودية في المغرب دور في إقامة اتّصال دائم مع إسرائيل. إذ يُعدّ أندري أزولاي أهمّ رجل سياسة وإعلام واقتصاد يهودي شغل منصب مستشار للملك الحسن الثاني في عام 1991، ولا يزال في منصبه إلى اليوم. يُعتبر أندري وسيطاً بين المغرب وإسرائيل، وقد عمل على تجنيد الاستثمارات الأجنبية وتنمية السياحة في المغرب، وساهم في التطبيع الثقافي من خلال جمعية أَسّسها للأنشطة الثقافية والمهرجانات عملت على استقطاب فنّانين مغاربة من أصول يهودية يعيشون في إسرائيل. وفي أعقاب إعلان التطبيع، كتب أندري مقالاً في صحيفة "يسرائيل هيوم" جاء فيه: "من وجهة نظر تاريخية، بدأت الروابط الوثيقة بين المغرب والشعب اليهودي منذ مئات السنين. لطالما نظر ملوك المغرب إلى الجالية اليهودية على أنها طبقة مهمّة لتطوّر المملكة ومرونتها، وعلى مرّ التاريخ كان لملوك المغرب مستشارون ووزراء وسفراء من الجالية اليهودية". ويضع "المرصد المغربي لمناهضة التطبيع"، أندري أزولاي، على رأس قائمة المطبّعين، فيما يصفه الكاتب اليهودي المغربي، يعقوب كوهين، بـ"البوّابة المشرّعة للاختراق الصهيوني".
شخصية أخرى تبرز في هذا الإطار، هي رجل الأعمال اليهودي المغربي، ياريف باز، أحد المستثمرين في مجال المواد الغذائية في المغرب، وشريك نائب مدير الموساد السابق، رام بن باراك، في أعمال تجارية، بالإضافة إلى استثماراته في إسرائيل. كان لباز دور محوري في إعلان التطبيع، وذلك لعلاقاته التي تجمع بين أطراف الاتفاق، بدءاً بمساعدي نتنياهو ومستشار ترامب جاريد كوشنر، إلى مؤسّسة الحكم في المغرب خاصة وزير الخارجية ناصر بوريطة. وجاء في صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية أن الباز هو الذي سعى في عام 2017 للحصول على اعتراف أميركي بالصحراء الغربية كشرط لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، كما أنه هو مَن أبلغ الحكومة المغربية بأن إدارة ترامب ستُقدّم للمغرب تسهيلاً يصل إلى 3 مليارات دولار من الاستثمارات، علماً أن غالبيتها مُخصّصة للبنوك والفنادق وشركات الطاقة التي يمتلكها.
يرى اليهود المغاربة أن علاقتهم القديمة بالملك ومكانتهم الاقتصادية والاجتماعية ساهمتا في الوصول أخيراً إلى إعلان تطبيع وصفه رئيس الجالية اليهودية في المغرب، جاكي كادوش، بـ"المعجزة"، فيما أثنى رئيس محكمة الجالية اليهودية في المغرب، الحاخام يوشا بينتو، على الملك بقوله إن "أعضاء الجالية اليهودية في المغرب ملتزمون بالفخر لوجودهم هنا تحت حكم الملك، حيث كان البيت الملكي يعمل الخير فقط من أجل شعب إسرائيل". وتَظهر المكانة الخاصة لملوك المغرب في إسرائيل من خلال إقامة نصب تذكاري للملك محمد الخامس، "صديق الشعب اليهودي" كما أُطلق عليه، في مدينة عسقلان. وبوفاة الملك حسن الثاني، سُمّيت ستة ميادين في إسرائيل باسمه، كما وُضع طابع بريدي بصورته. وأخيراً، تناقلت الصحف العبرية رسالة كتبها ثيودر هرتزل إلى صديقه الناشط البريطاني جوزيف كافان عام 1903، يقترح فيها المغرب "وطناً قومياً لليهود" من خلال توطين يهود روسيا، إلا أن هذه الخطّة ذهبت إلى الأرشيف بوفاة هرتزل عام 1904.
ويشير رئيس "المرصد المغربي لمناهضة التطبيع"، أحمد وايحمان، إلى أن "اليهود المغاربة يستغلّون مواقعهم ونفوذهم على المستوى العالمي وارتباطهم برأس المال اليهودي العالمي والبنوك الكبرى ليمارسوا من خلالها الضغوط لقبول المغرب بالتطبيع. ولكنْ في المغرب، هناك رفض شعبي منذ عقود لأيّ علاقات مع إسرائيل، وحتى هناك يهود مغاربة أصلاء يرفضون التطبيع وداعمون للقضية الفلسطينية مثل أبراهام السرفاتي ويعقوب كوهين وإدمون عمران المالح وسيون أسيدون، وهؤلاء نَعتزّ بهم لأنهم يرتبطون بقضايا الأمة".
بالنتيجة، يمثّل اليهود المغاربة إحدى الأدوات التي استغلّتها تل أبيب لإتمام التطبيع مع الرباط، وهم الذين استُغلّوا أيضاً في خمسينيات القرن الماضي لتهجيرهم إلى فلسطين لتعزيز الديمغرافية اليهودية. كما ليس خفيّاً أن اليهود المغاربة في إسرائيل هم أكثر مَن عانوا من عنصرية السلطات الإسرائيلية التي وضعتهم في أدنى سلّم المجتمع، فكيف يجد المغرب، والحال هذه، في إسرائيل شريكاً لـ"التعايش والسلام"؟

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا