مهما تكن اهتمامات الرأي العام الإسرائيلي في هذه المرحلة، وبغضّ النظر عن محاولات القادة الإسرائيليين تركيز اهتماماتهم نحو الشمال والشرق مع تصاعد مستوى التوتر إقليمياً، فكلاهما لا يستطيع تجاهل ما يجري على الجبهة الجنوبية التي تفرض نفسها على مؤسّسات القرار السياسي والأمني، ويصير الأمر أكثر حضوراً عندما يتعلّق بمناورة عسكرية واسعة غير مسبوقة في قطاع غزة. لا يخفى أن وسائل الإعلام العبرية لها دور بارز، في كثير من المحطّات، في تظهير جدول اهتمامات الجمهور والقيادة، كما أنها تؤدي دوراً ليس تجاه العدو الخارجي فقط، وإنما تجاه الجمهور. ضمن هذا السياق، أتى اهتمامها بالمناورة وتغطيتها لها، وتأكيدها أن هذه الخطوة لا تعني الحرب.أمّا الأجهزة الاستخبارية والعملانية التابعة لجيش العدو فتجد نفسها أمام حدث غير مسبوق في دلالاته، وينطوي على كثير من الرسائل المُوجّهة إلى مؤسسة القرار. ولا يُغيّر في ذلك تأكيد الإعلام العبري أن مناورة المقاومة ليست مؤشراً على مواجهة، وإنما تهدف إلى تعزيز قوة ردعها في مواجهة أيّ عدوان إسرائيلي. مع ذلك، رأت صحيفة «يديعوت أحرونوت» في ما جرى «تعبيراً آخر عن انعدام اليقين في الفترة الانتقالية بين إدارة (دونالد) ترامب و(جو) بايدن». وعلى المستوى العسكري، لفتت تقارير إلى أن المناورة كانت واسعة وتحاكي مواجهة عسكرية، وفي سياقها أُطلقت الصواريخ نحو البحر محاكاة لقصف العمق في أيّ مواجهة.
وسط ذلك، حاولت "القناة الـ 12" في التلفزيون الإسرائيلي توجيه رسالة طمأنة إلى الداخل، مشدّدة على «عدم القلق»، من دون أن تخفي أن الجهات المهنية قد تكون لديها مقاربة أخرى. ولذلك، لفتت إلى أنهم «في الجيش والجبهة الجنوبية يتابعون كلّ خطوة... لا يتأثرون كثيراً ولا يستخفّون». كما يُذكر أن قنوات التلفزة وبقية الوسائل الإسرائيلية تناولت المناورة كحدث «نوعي»، لكن الخطاب الذي واكبت عبره الحدث كان متشابهاً ومكرّراً، وهو أن سياقاته ودلالاته ورسائله «صريحة وواضحة».
وبدا أن من أهمّ ما لفتهم في تل أبيب مجيء المناورة في الوقت الذي ينبغي أن تكون فيه «الدراما الحقيقية في غزة ليست الاستعداد لحرب إنما كورونا»، ومن هنا، تقديرهم أن الهدف هو التأثير في وعي الكيان. وبغضّ النظر عن خلفيات هذا التوصيف لدى الجهات التي استخدمته، فإنه ينطوي على إقرار بعمق تأثير مواقف المقاومة وقدراتها في المؤسسة الإسرائيلية.
لم تستطع قيادة العدو وجمهوره تجاهل الجبهة الجنوبية التي تفرض نفسها

مع ذلك، أضافت "القناة الـ 12" عناوين أخرى لا تتعارض مع تلك بل مكمّلة لها، ورأت أنها تندرج ضمن قائمة أهداف المناورة، فهناك «تعزيز الردع»، من دون أن تغفل الإشارة إلى أن المنطقة «تمرّ بمرحلة حساسة جداً»، وأن ما يَحذّر منه حلف المقاومة في الأيام الأخيرة من ولاية ترامب ينسحب أيضاً ــــ كما يُقدِّرون في تل أبيب ــــ على الفصائل في القطاع.
مع ذلك، تبقى حقيقة أساسية تشكّل أحد عناصر القوة لدى كلّ حركات المقاومة، وهي حالة التكاتف والوحدة في مواجهة العدو، وقد انعكست في مشاركة هذا العدد من الفصائل. ونتيجة لأهمية ذلك البعد في حسابات العدو، فقد حضر في قنوات التلفزة، إذ أشار بعضها إلى أن «الفصائل الفلسطينية... وضعت كلّ راياتها الحزبية جانباً، ولم ترفع راية أيّ فصيل أو جهة مسلحة، متخذة من الرايات والكوفية الفلسطينية شعاراً. وليس أمراً عابراً التذكير الدائم بالدور الذي تقوم به المقاومة في مواجهة الخطر الإسرائيلي، وخاصة في مواجهة الحروب التي تهدف إلى التأثير في وعي بيئة المقاومة.
لم يكن مفاجئاً اهتمام الإعلام الإسرائيلي بالصورة الضخمة لقائد «قوة القدس»، الشهيد قاسم سليماني، التي وُضعت عشية المناورات على الطريق الساحلي الرئيسي في غزة، ولا أيضاً ربط المناورات بالتوتر المتصاعد في المنطقة، وتأكيد أنها تهدف إلى توجيه رسالة تحذير إلى إسرائيل والولايات المتحدة إزاء أيّ عملية محتملة. وعلى رغم أنهم في كيان العدو يرون أن أولويات القطاع في هذه المرحلة تكمن في مواجهة تمدّد «كورونا»، ومعالجة الضغط الاقتصادي، لكن التدقيق في هذا التوصيف ينبغي أن يدفع قادة العدو إلى القلق من استمرار تفاقمه وانعكاسه على جنوب فلسطين المحتلة كمرحلة أولى، وأنه في حال التدحرج يمكن أن يصل إلى عمق الكيان. الأهمّ أنه على رغم الواقع الصعب والقاسي داخل القطاع، تُظهر مناورة المقاومة حقيقة كان لا بد من التعبير عنها، وهي أن كل الضغوط وصعوبة الواقع لم توهن إرادة الفصائل في مواجهة الاحتلال.