دمشق | تتوالى على رؤوس السوريين المحنة تلو الأخرى، وآخر الفصول انقطاع الدواء. لم يمضِ سوى بضعة أشهر على فقدان الأدوية الوطنية في حزيران/ يونيو الماضي حتى وُلدت أخرى مشابهة لا تقلّ حدّة عن سابقتها، بالتزامن مع الموجة الثانية لانتشار فيروس «كورونا» وارتفاع حصيلة المصابين، ما يجعل الحاجة إلى الدواء مضاعفة. ما يفاقم الوضع أن غالبية هذه الأدوية تتّصل بالأمراض المزمنة التي لا يستطيع بعض المرضى البقاء من دونها ليوم واحد. هذا النقص الفادح تربطه نقيبة صيادلة سوريا، وفاء كيشي، بـ«خروج أعداد كبيرة من معامل الأدوية عن الإنتاج، وتدميرها بفعل سنوات الحرب، إضافة إلى العقوبات الاقتصادية على البلاد وجائحة كورونا... وعقبات الشحن وتحويل الأموال التي تستغرق أشهراً طويلة، ما يؤدي إلى تعذّر وصولها في الوقت المناسب». ويبدو أن تغيّر سعر الصرف هو المتحكّم في لعبة فقدان الأدوية؛ فالتبدلات الدائمة في الصرف لا تشجّع المعامل على إنتاج الأدوية بسبب تفاوت الكلفة وسعر المبيع، ما يؤدّي إلى النقص، خاصة أن شراء المواد الأولية بالدولار الأميركي، وبيعه بالسعر الذي يحدّده المصرف المركزي، صفقة «غير رابحة» لأصحاب المصانع، بل خسارة حتمية. تقول كيشي لـ«الأخبار»، إن «غالبية معامل الأدوية السورية خاسرة»مقابل غياب الأدوية المستوردة، باستثناء أدوية السرطان، بسبب الحصار الاقتصادي والعقوبات الغربية، ثمة توافر في الأدوية المهرّبة، خاصة للمرضى الذين اعتادوا تناول أدوية أجنبية بوصفة من أطبائهم الذي يصرّون عليه دون سواه، وذلك بالتنسيق مع الصيادلة أحياناً، لكونها كتجارة مربحة! ورغم نجاعة عدد من الأدوية المهرّبة، تراها وزارة الصحة «ممنوعة»، وتصنف دخولها البلاد على أنه غير شرعي وغير آمن لصحة المرضى، ولا سيما مع صعوبة التمييز بين الدواء الأصلي من الشركة الأم، والمزوّر الذي لا يخضع لرقابة الوزارة، فضلاً عن طريقة نقله التي قد تفتقر إلى معايير التخزين، كما توضح النقيبة كيشي. هذا الكلام ينفيه صيدلاني آخر، رفض كشف اسمه، قائلاً إنه يشتري الأدوية من لبنان من «مصدر موثوق جداً»، وإن الدواء «خاضع للرقابة من بلد المنشأ... لا يمكن التلاعب بحياة الناس وأيضاً لا يمكنهم الانتظار والتألم».
حالياً تحتل أدوية الأمراض المزمنة طليعة لائحة المفقودات، ويشير صيدلاني آخر إلى أن من أكثر الأدوية المفقودة التي تشهد طلباً متزايداً «زوميتان» (zomitan) المستخدم لمرضى الشقيقة على نحو يومي، كما أن البديل منه وهو «أنتيميغرا» (antimigra) غير متوافر. يقول هذا الصيدلاني إنه إلى جانب الدواء السابق هناك «أدوية ضرورية مفقودة تماماً»، مثل «ماجيهارت» (magiheart) المستخدم يومياً عقب إجراء جراحة في القلب وتركيب شبكات وقسطرة للوقاية من الذبحة الصدرية، إضافة إلى مضاد الالتهاب «نيود إيد» (new aid) وغيره. لكن مصدراً في وزارة الصحة يؤكد أن الأمر خارج قدرة الدولة على الحل بسبب كثرة الأسباب، مثل النقص الفادح في الأدوية الوطنية، وغياب رديفها المستورد بفعل الحصار، وغلاء المواد الأولية، وإصرار بعض الأطباء على الدواء الأجنبي. والمشكلة الكبرى أن فعالية الأدوية الوطنية انخفضت إلى ما دون الوسط، بسبب استيراد المعامل مواد أولية رخيصة. معلومة يؤكدها تامر الذي يعمل موزّعاً للموادّ الأولية لمعامل الأدوية في دمشق، ويقول إن المصانع تشتري موادّ نخباً عاشراً من الهند والصين لزيادة هامش الربح، وهو ما يفسّر الشكاوى المتكرّرة من المرضى حول رداءة الأدوية المحلية. مثلاً، تقول مجيدة، وهي ربّة منزل، إن أدوية السعال للأطفال «مزيج من الماء والسكر ولا طائل منها»، مضيفة: «كل شي بيحضر بالمصاري، حتّى لو كان ممنوع».
أما طبيب الأورام طارق العبد، فلفت إلى مثال آخر هو أن معظم أدوية سرطان الكلية حالياً غير مسجّلة لدى وزارة الصحة، وهي غائبة في المستشفيات الحكومية، كما أن تكلفتها باهظة إذا ما قرّر المريض شراءها على نفقته الخاصة. وفي بيع الأدوية المهرّبة، تصل نسبة الربح إلى أكثر من 150%، كما تقول موظفة في إحدى الصيدليات المعروفة في دمشق، مضيفة: «الربح المضاعف هو غاية غالبية الصيادلة، ولذلك يسعون إلى توفير الدواء المهرّب، خاصة إذا كان من الصنف المفقود محلياً... عدا تكديس الصيدليات أكواماً من الأدوية واحتكارها حين يتوقّعون ارتفاعاً في الأسعار لبيعها لاحقاً بثمن أعلى».