غرداية | تستمر اشتباكات عنيفة بين الإباضيين الأمازيغ والمالكيين العرب كانت قد بدأت منذ أسبوع في حي القرطي وسط غرداية. ولم تتمكن الشرطة من إيقاف الصراع الذي تطور ليحصد حتى أمس قتيلين وأكثر من 37 جريحاً، من بينهم 17 شرطياً. ووصلت نيران الاشتباكات إلى المنازل والمحال التجارية، كما تعرضت بعض سيارات العابرين للرشق بالحجارة، ومن هؤلاء الصحافيون الذين يصعب عليهم العبور إلى المدينة في ظل استهدافهم على وجه الخصوص.
لم تكن الأحداث التي شهدها حي «القرطي» إلا عيّنة من اشتباكات كثيرة طالت غرداية وخلفت ما بين كانون الأول وآذار الماضيين سبعة قتلى وأكثر من 400 جريح، إلى جانب أنها شلّت سبل الحياة في المدينة رغم تدخلات أعيان المنطقة من شيوخ المذهبين المالكي والإباضي الذين دعوا إلى التعقل والتزام الهدوء.
بالتزامن مع ذلك، أعلنت الحكومة الجزائرية صرفها تعويضات أولية للعائلات المتضررة وفتح تحقيق في الأحداث مع توفير عدد كبير من رجال الشرطة والدرك على المداخل الكبرى للمدينة. كل تلك الإجراءات لم تغير الواقع الأمني الذي أدى إلى تعطيل الدراسة خوفاً على سلامة الطلاب، مع اضطرار عشرات العائلات إلى الهرب من منازلها بعد الهلع الذي أصابها.

الطريق إلى المدينة

على ضوء الخطورة الأمنية، قضت «الأخبار» ست ساعات في الطريق المؤدية إلى غرداية (600 كلم جنوبي العاصمة) المعروفة بقصورها القديمة وحماماتها التي يقصدها السياح للتداوي والاسترخاء. كانت الطريق خالية من السيارات على غير عادة الازدحام السياحي. هي الآن فارغة إلا من وجود كبير للأمن الجزائري الذي يجري عمليات تفتيش لتأمين المنطقة.
المدينة الهادئة التي كانت إحدى الوجهات السياحية لصحراء الجزائر، تغيّرت حالها وأضحت لا تسر القاصدين، فهي تحت نار المواجهات ليس بين الإباضيين والمالكيين فحسب، بل بين عصابات المافيا ومهربي المخدرات.
محمد أب لستة أطفال يروي لـ«الأخبار» اللحظات العصيبة التي عاشها منذ شهر تقريباً، حينما دهم عدد من الشبان الملثمين منزله وأضرموا النار فيه. نجا محمد وأبناؤه بأعجوبة بعد تدخل جيرانه، وهو يقيم حالياً عند أحد أقربائه، في ظل عجزه عن العودة مع هشاشة الوضع الأمني.
واشتعل فتيل هذا الصراع حديثاً في تموز 2008 حين سقط عدد من القتلى والجرحى، ثم في آذار 2009 عاد العنف مجدداً إلى المنطقة وراح ضحيته 10 قتلى بين الطرفين حتى توقيع صلح بين أعيان المذهبين الإباضي والمالكي عرف بمبادرة ريان.
لم يمض شهر واحد في ذلك العام حتى تجددت الاشتباكات، وما لبثت أن استقرت الأوضاع حتى عاد التوتر أواخر 2011 على خلفية صراع حول ملكية أراض. وفي أيار 2013، تجددت المواجهات، وأعلن المجلس البلدي لاتحاد تجار المدينة الإضراب المفتوح عن العمل حتى توفير الأمن.
هذا التراوح القديم ــ الجديد بين الهدوء والاشتباك يطرح عدداً من التساؤلات عن الأسباب الحقيقية للخلاف ومدى ارتباطه بالجانب الفكري والعقائدي، أم هناك أياد خارجية تعبث في أمن المنطقة؟
قصدت «الأخبار» مقر صحيفة الواحة، وهي أقدم صحيفة في الجنوب الجزائري، وكانت قد تابعت هذا الصراع منذ سنوات طويلة. يقول مدير الصحيفة داود النجار: «من يقف خلف هذه الاعتداءات مافيا المخدرات التي تستفيد من إشاعة الفوضى وإعطائها طابعاً مذهبياً كي تمرر أعمالها في ظل غياب الرقابة وانشغال الأمن».
ويستدل النجار على تحليله بالإجراءات الأمنية التي نفذتها سلطات المنطقة حين اتخذت قراراً بتجفيف منابع مهربي المخدرات، «ما أثّر في نشاطهم ودفعهم إلى تحريض مجموعة من شبان المنطقة للاعتداء على ممتلكات المذهب الآخر، لتشتعل الفتنة مجدداً وتستفيد المافيا من الفوضى».
لم يخف مدير الصحيفة عتبه على بعض وسائل الإعلام المحلية التي عنونت الصراع بطريقة تحريضية كـ«غرداية تحترق» أو «الحرب الأهلية»، فهذا من وجهة نظره يتنافى مع الواقع، فضلاً عن المهنية الصحافية. ويستطرد: «التعايش بين العرب والأمازيغ كان عنوان الحياة في الجزائر لسنوات طويلة، لكن هناك من يسعى إلى الفتنة وتشويه الحقائق ليصل إلى مراد خفي»، وذلك في إشارة إلى المهربين الذين يرى أن الحل الأمثل معهم تكثيف الإجراءات الأمنية ضدهم ومعاقبة المجرمين منهم.
ويتفق بعض المحللين مع ما طرحه سابقهم في فهم ما يجري في غرداية، فهم ينبهون إلى أن ما حدث أخيراً امتداد لسلسلة من السيناريوات المنظمة التي تخطط لها جهات نافذة في مافيا التهريب والمخدرات، مستغلة التركيبة الطائفية المختلفة والفوارق العرقية. ويقول هؤلاء إن وسائل إعلام داخلية وخارجية تساعد المافيات في تنفيذ أجندتها وتأجيج الصراع بطرق منظمة ومدروسة. هذه السلسلة من الأحداث المتقاربة خلقت نوعاً من الهوة بين سكان المنطقة، وجعلت كل طرف يتحاشى الانغماس في خصوصيات الطرف الآخر. وفي نوفمبر الماضي كان لاندلاع المواجهات في مدينة القرارة القريبة وقع صادم في نفوس سكان المنطقة، فقد بدأت شرارة التوتر من مباراة كرة قدم أشعلت الأوضاع مجدداً، وسبّبت سقوط قتلى وجرحى وإحراق منازل ومحال.
على المستوى السياسي، خلقت المشاهد الواردة من المنطقة والتي تداولها الناشطون على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بلبلة لدى الرأي العام الجزائري، فتحركت بعض الأحزاب وأوفدت مبعوثيها إلى القرارة. وما إن هدأت الأوضاع في الأخيرة حتى بدأت ألسنة فتنة لاسعة تظهر وسط غرداية، إذ خرج عشرات من شبان أحياء الثنية والحاج مسعود والمجاهدين في احتجاجات أغلقوا فيها كل الطرق الرئيسية مطالبين السلطات المحلية بحقوقهم.
«السلطات لم تعر الموضوع اهتماماً، ولم تدرك أن معظم النار من مستصغر الشرر»، يقول أحد التجار الذي روى لـ«الأخبار» كيف تحولت الاحتجاجات من مطالب مشروعة إلى استفزازات ضد التجار الميزابيين الأمازيغ خاصة، «ثم اعتداءات على محالهم وسرقتها وتخريبها». ويضيف: «يعيب الميزابيون على خصومهم الاتكالية على الدولة وتخريب ممتلكات بناها أهل مزاب بعرق جباههم على مدار السنين، وهم المعروفون أصلاً لدى الجزائريين بحنكتهم في مجال التجارة قبل استقلال الجزائر، فضلاً عن تميزهم بنظام اجتماعي تكافلي مكّنهم من التغلب على المشاكل الاجتماعية والاقتصادية».
المافيا تستفيد
من الفوضى ومن إعطائها طابعاً مذهبيّاً كي تمرّر أعمالها


تلك الاعتداءات مع التراكمات التاريخية سبّبت، وفق رأيه، نشوب أولى بوادر الأزمة الحالية التي حولت غرداية إلى مدينة جريحة يعمّها الخراب ولا يكاد يتعرف عليها من كان في الأمس داخلها، ويستفيد من ذلك كله أصحاب مصالح التهريب.
وتدخل غرداية شهرها الخامس في الأزمة منذ اندلاع الأحداث في منطقة القرارة، لكن انتقال الفتنة الأخيرة جاء بطريقة مخيفة، فقد سقط ما لا يقل عن تسعة قتلى ومئات الجرحى، كذلك تعرض أكثر من 700 من الأملاك الخاصة (البيوت والمحال التجارية) للحرق والتخريب، فضلاً عن الاعتداء على بعض المقدسات كالمساجد والمقابر.
ويكمل التاجر حديثه: «لا يهنأ بال المدبرين للفتنة إلا حين ينقلونها من حيّ إلى آخر، فهم يتعمدون التمويه على قوات الأمن والدرك المنتشرة في النقاط الحساسة التي كانت قد شهدت الأحداث في أوقات ماضية».
أما قوات الأمن الإضافية فلم تتمكن هي الأخرى من التحكم في الأوضاع، ولم تفلح الحلول التي قدمتها السلطات المركزية والمحلية في حفظ الأمن.
ويتهم مواطنون السلطات بأنها لا تريد المساهمة في حل الصراع، بل تفضّل ترك الأمور إلى ما بعد الانتخابات، والغرض من ذلك وفق رأيهم هو أن انشغال الناس بما يعيشونه من وضع صعب سيبعدهم عن الأجواء الانتخابية.
يشار إلى أن قائد الحملة الانتخابية للرئيس المرشح عبد العزيز بوتفليقة، عبد المالك سلال، زار مدينة غرداية الأربعاء الماضي وقال إن من أولويات الرئيس إعادة الأمن والاستقرار.
وكان سلال يتحدث في خطاب له بالتزامن مع تجدد المواجهات في منطقة العذيرة، وقد سقط شاب مزابي عشية الجمعة بعد انتقال أعمال العنف إلى مدينة بريان شمال غرداية. ومع إخفاق المساعي السياسية والأمنية في احتواء هذه الأزمة، ينتظر المراقبون نتائج الانتخابات الرئاسية التي تفصل الجزائريين عنها أيام معدودة.



بين العرب المالكيين والأمازيغ الإباضيين

أعطت مدينة غرداية التي تبعد عن الجزائر العاصمة حوالى 600 كلم جنوباً مثالاً على التعايش الآمن بين سكانها الذين يتبعون المذهب الإباضي وبعض العرب من المذهب المالكي. ولهذه المدينة جذور عميقة في تاريخ الجزائر، وهي تعرف بتراثها الحضاري الذي شكل وعاءً متميزاً يحجّ لاكتشافه الناس من كل حدب وصوب، كذلك فإن الحركة التجارية فيها منذ مئات السنين أحد أهم أعصاب الحياة الاقتصادية في الجنوب الجزائري.
وليست الحساسية بين الإباضيين والعرب هناك وليدة الساعة، بل ترجع إلى تراكمات تاريخية كانت تعصف بالمنطقة، ويعود الصراع الطائفي في المدينة إلى أربعة قرون، وفق المؤرخين الذين يشيرون إلى أن الصراع بين قبيلة الشعابنة العربية والإباضيين الأمازيغ بدأ سنة 1722.
كانت المعارك تتجدد بين الطرفين كل 40 أو 50 عاماً، في حين تعود المنطقة إلى الهدوء بعد تدخل أعيان وشيوخ المنطقة من المذهبين من أجل رأب الصدع وإحلال لغة الحوار.
لعل تاريخ غرداية قد سجل في سنوات ماضية بعض مشاهد الفتنة بين سكانها، لكن اندلاع العنف خلال الأشهر القليلة الماضية جاء بصورة مختلفة ومخيفة لأهالي المنطقة ومواطني الجزائر عموماً، وذلك بسبب مرور البلاد بمرحلة سياسية وأمنية حساسة، ما أجبر السلطات الجزائرية على الإسراع في محاولة السيطرة على الأوضاع وفرض الأمن في المنطقة.