ليس أوضح من إزاحة الملك سعود عن المشهد للدلالة على تكاتف الأخوة السديريين واصطفافهم مع ولي العهد فيصل، في محاولته اغتصاب الحكم من أخيه بعد فضح خطة سعود التي تسربت عن محاولته السرية تحويل الخلافة إلى أبنائه. الانقلاب الناعم لم يدم طويلاً، فبرغم نجاح فيصل في خلق دولة جديدة، بتقديمات وحوافز اقتصادية واجتماعية شعبوية، لم يشفع له ذلك في أرض «الأفاعي الملكية».
هذا تصوُّر يحاول بعضهم إسقاطه من جديد على عهد سلمان، ومحاولاته الحثيثة لتولية ابنه محمد، بالعمل على إظهاره كخليفة لعمِّه الراحل. يساعده في ذلك وفاة أقوى الإخوة السديريين الذين تحالفوا ضد سعود آنذاك، وضعف التحالفات النجدية على مرّ السنوات عبر شراء الولاءات. زاد ذلك في مرحلة لاحقة، مع رفض الملك عبد الله بقاء سيطرة الجناح السديري على السلطة. وبعد وفاته، جرى من جديد القفز فوق هيئة البيعة ــ اخترعها عبد الله لكسر احتكار الجناح السديري للحكم بعد سنة على توليته الحكم ــ بتسمية محمد بن نايف ولياً للعهد، ومحمد بن سلمان ولياً لولي العهد.
ربما نسي ابن سلمان أنه ليس أسطورة ولم يكن يوماً خليفة للمؤسس

خيارات سلمان، التي بدت سريعة ومتهورة في حسم الصراع داخل العائلة خلال الأيام القليلة من تسلّمه السلطة، طاولت كل ما يمتُّ للعهد الماضي بصلة، بإبعاد المقربين من الملك الراحل وإلغاء العديد من المجالس والهيئات، وتمكين ابنه المفضل محمد على غالبية المناصب المؤثرة والحساسة. السلطة والقوة المفاجئة لم تكفيا الأمير الصغير؛ ففي نهاية العام الماضي نشرت وكالة «الاستخبارات الألمانية» مذكرة قالت فيها إن ابن سلمان «مقامر سياسي من خلال الحروب بالوكالة». لكن طمعه في «قيادة العالمين العربي والإسلامي» لم يكن معبَّداً وسلمياً كما كان الوصول إلى عتبات حكم السعودية. طلب الأمير المغامر إثارة النعرة المذهبية «السنّية»، على حساب شعوب اليمن والعراق وسوريا، ما عمَّد قوته المستحدثة بالدم والفوضى.
المغامرات الخارجية والداخلية للاعب «البوكر» المستجد، وفق المغرد «مجتهد»، أدَّت إلى ظهور بوادر حرب بين المحمَّدَين، عبر محاولة ابن سلمان تهميش ابن عمه تمهيداً للوصول إلى ولاية العهد، تدعمه في ذلك سيطرته على قرارات والده السياسية والاقتصادية، ويحمله الأمل في استخدام والده سلمان ورقته الأخيرة كصاحب سلطة مطلق وفق النظام الأساسي للحكم، من أجل عزل ابن نايف وتوليته، كما حدث يوم عزل سلمان شقيقه مقرن.
لكن يعرقل ذلك تسارع إخفاقات ابني نايف وسلمان، الداخلية والخارجية، خصوصاً الكبيرة والمؤذية لصورة المملكة، وأهمّها حادثة رافعة الحرم وتفجيرات «داعش»، وليس انتهاء بفاجعة منى التي ذهب ضحيتها الآلاف من الحجاج، التي يتولى مسؤوليتها محمد بن نايف. فيما صورة محمد بن سلمان وهو يرفع الهاتف آذناً ببدء عدوان «عاصفة الحزم» على اليمن ماثلة في الأذهان. عمل بعدها الأخير على ترميم تداعياتها في الساحة السعودية القلقة من تدهور الوضع الاقتصادي نتيجة الحرب وهبوط أسعار النفط تحت حاجز 30 دولاراً، ومقدّماً نفسه على أنه وريث التاتشرية ــ نسبة إلى رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر ــ في الحديث الذي أدلى به لمجلة «إيكونوميست» الاقتصادية، بتسويقه السلة الاقتصادية المبهمة، والعمل على مزيد من الخصخصة، التي وصلت إلى أبواب «أرامكو»، كيس الذهب السعودي الوحيد.
مقولة الخليفة العباسي هارون الرشيد لابنه المأمون: «يا بني المِلك عقيم ولو نازعتني أنت على الحكم لأخذت الذي فيه عيناك»، التي سجلت بالدم لدى العرب في صراعهم على الحكم، قد يتمثل بها وريث آخر أبناء الملك المؤسس الذين حكموا السعودية، في حربه ضد ابن عمه السديري. وفق تقديرات مراكز البحوث العالمية، فإن محمد بن سلمان شخص عديم الخبرة ومتسرّع، وحمله لقب أصغر وزير دفاع في العالم جعله بالغ التأثير في خط العلاقات مع الدول والقضايا الكبرى، خصوصاً بعدما استقبله الرئيس الأميركي، باراك أوباما، كما يستقبل ملوك السعودية خلال زيارته الأخيرة لواشنطن في 4 أيلول الماضي.
ساعدته تلك الخطوة الأميركية في تهميش محمد بن نايف في ملفَّي الإرهاب والأزمة السورية، وفي تحريك العلاقات إيجاباً وسلباً مع الإيرانيين. لكن الصراعات داخل العائلة تعرقل اندفاعة ابن سلمان للاستحواذ على الحكم، إلى حد أنه نشر في الصيف الماضي رسائل أميرية تدعو إلى إطاحة الملك وأولياء عهده من الجناح السديري. أمنيات الشاب الطموح في ركوب موجة جده المؤسس لجبهة «سنية وهابية» في الماضي، تحققت هذه الأيام بعمله على خلق حالة قلق دبلوماسية لدى الجانب الغربي من إمكانية استعداد الحفيد الملكي لفرض حرب عالمية عبر توجيه ضربة عسكرية لإيران، «الجارة الشيعية».
كل تلك الخطوات الأميرية المتهورة لن تتحقَّق ما لم يمهّد لها الملك بقرار ملكي، حتى لو كان متأخراً، يحفظ العرش في بيت سلمان على يد نجله محمد أو كما يعرف بـ«حاجب الملك». وكل ما سبق لا يغفر للأخير تكريسه مرحلة التقشف والإصلاحات الاقتصادية الباهتة التي ظهرت بوادرها بعد حرب اليمن، فربما نسي ابن سلمان أنه ليس أسطورة ولم يكن يوماً خليفة للمؤسس، ولا شيء يشفع له سوى الرخاء الاقتصادي الذي دوماً تمظهرت منه علاقة الشعب بالبيت السعودي، لتبقى المملكة الوهابية لأعوام جديدة حقلاً للتجارب الأميرية بعواصفها المدمرة داخل الجزيرة والدول المجاورة، برعاية الحليف الأكبر.