اضطلعت الإمارات، في السنوات الأخيرة، بدور متعاظم في الشؤون الأفريقية القارّية، مُستغِلّةً في ذلك أذرعها الاقتصادية، والمظلّة التنظيمية الأبرز في القارة: «الاتحاد الأفريقي»، الذي نالت فيه صفة مراقب عام 2011. عزفت أبو ظبي، في الخطاب الرسمي الذي صدَّرته هناك، على وتر «الحاجات التنموية»، و»الاهتمام بالشباب»، و»التحوُّل الرقمي»، و»قيم الابتكار»، وتعزيز جهود تحقيق تطلُّعات القارة وفق أجندة «أفريقيا 2063»، بل إنها أطلقت عام 2020 ما عُرف بمبادرة «كونسرتيوم من أجل أفريقيا»، وهو ما قوبل بترحيب رسمي أفريقي. على الأرض، كانت مشاكل القارّة تتكاثر شيئاً فشيئاً، فيما لم تسهم الإمارات إلّا في إذكاء عدد من الصراعات، وتعميق الاستغلال الاقتصادي للموارد الأفريقية على نحو غير متكافئ.
ملامح الاستراتيجية الإماراتية
كشفت الإمارات، في قمّة الاتحاد الأفريقي منذ نحو عام، عمّا اعتبرته «مبادرة استثمار وتنمية» جديدة في أفريقيا، مُتمثّلة في «كونسرتيوم» إماراتي (حكومي وخاص) يلتزم باستثمارات بقيمة 500 مليون دولار، تُركّز على «التحوُّل الرقمي» و»الشباب»، وتُوظِّف خبرة الإمارات في «الشراكة» مع أفريقيا كونها ثاني أكبر دولة مستثمرة في القارّة منذ عام 2016. ويُعوّل الإماراتيون، في تعزيز مبادراتهم في أفريقيا، على شراكات مع أهمّ الفاعلين في القارّة (دولاً وشركات متعدّدة الجنسيات).
وتجاوزت تجارة الإمارات غير البترولية مع أفريقيا، في الشهور التسعة الأولى من عام 2020، 40.7 بليون دولار، مقارنة بـ36.9 بليون دولار في الفترة نفسها من عام 2019. واحتلّت كينيا لائحة الدول الأفريقية التي شهدت علاقاتها التجارية مع الإمارات نموّاً مطّرداً، سَجَّل 2.7 بليون دولار في عام 2019 مقارنة بـ1.5 بليون دولار في عام 2015. كما تجاوزت الاستثمارات الإماراتية في كينيا 2.38 بليون دولار، فيما تُقدَّر الاستثمارات الكينية في الإمارات بـ 63 مليون دولار.
وعلى رغم تحقيق التجارة غير البترولية بين الإمارات وأفريقيا أرقاماً قياسية في العام الماضي، فإن قطاع الطاقة يحتفظ بأهميته التقليدية في هذه العلاقات. وتُمثّل شركة «مبادلة للبترول»، المملوكة لولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، الذراع الحكومية لنفوذ الإمارات في قطاع البترول والغاز في شمال أفريقيا والصومال عبر شراكات مع كبريات شركات الطاقة العالمية وأبرزها «إيني» (التي باعت حصة قدرها 10% من امتياز حقل «ظهر» في مصر لمبادلة وبريتش بتروليوم)، والتي وَصَفَها موقع «أفريكا إنتيليجنس» المعروف بأنها رافعة النفوذ السياسي الإماراتي في القارّة. وفي نهاية كانون الثاني/ يناير الماضي، أعلن «صندوق أبو ظبي للتنمية» تمويل عدد من مشروعات الطاقة المتجدِّدة، ضمن استراتيجية لدعم «انتقال الطاقة» داخل الإمارات وخارجها. وضَخّ الصندوق، في العقد الفائت، 1.3 بليون دولار لتمويل 90 مشروعاً في 65 دولة، من بينها سبع دول أفريقية (مالي، سيشل، توجو، ليبيريا، الصومال - ولاية أرض الصومال، السودان والمالديف). واستحوذ السودان وحده على دعم بقيمة 200 مليون دولار لتمويل مشروعين في «سدّ مروى»، فيما لم يتجاوز إجمالي الدعم لمشاريع الدول الستّ الأخرى مجتمعة مائة مليون دولار، وأحدثها مجمّع طاقة شمسية في مدينة بربرة في «أرض الصومال»، افتُتح مطلع عام 2021.
يتّضح من جميع ما تَقدّم الارتباط العضوي بين التحرُّكات الاقتصادية والسياسية الإماراتية، وتسخير أوجه «التعاون» الإماراتي - الأفريقي، على المستويين الثنائي والقارّي، لتحقيق الأهداف الجيواستراتيجية للإمارات، وتغليب الأخيرة مصالحها الاقتصادية على اعتبارات الأمن القومي لأطراف أخرى، ربّما تصل علاقاتها مع أبو ظبي إلى مستوى التحالف في ملفّات أخرى.

إشكالات التطبيع: حالة جنوب أفريقيا
بحسب تقرير نشرته «الإيكونومست» نهاية كانون الثاني/ يناير 2021، فإن إسرائيل وشركاتها الخاصة تتطلّع إلى فرصة مزدوجة مع الإمارات في العالم العربي وأفريقيا، نظراً إلى «فهم» أبو ظبي لطبيعة هذه الأسواق مقارنة بتل أبيب، الأمر الذي بدأت بوادره رسمياً بتوقيع بنك «هبوعليم» الإسرائيلي اتفاقات تعاون مع بنكَين إماراتيَّين في هذا الخصوص. كما يتطلّع الإسرائيليون إلى التعاون الوثيق مع الإمارات في بعض المجالات الحسّاسة مثل البرمجيات الأمنية، والمعدّات المتقدّمة للرعاية الصحية والدفاع وإنتاج الطاقة، على اعتبار أنه من الأجدى «لأكثر دولتين متقدّمتَين تكنولوجياً في الشرق الأوسط أن تعملا معاً كمنافذ ومراكز بحثية»، بحسب وزير الاتصالات الإسرائيلي السابق، يوعاز هيندل. إلا أنه في مقابل تلك الادّعاءات، يُتوقّع أن تقود هذه العلاقات الجديدة إلى انتشار المشكلات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع ملاحظة تصاعد السياسة الخارجية العدوانية للإمارات في الأعوام الخمسة الأخيرة في اليمن وشمال أفريقيا والقرن الأفريقي، واستقدامها مرتزقة وشركات أمن يديرها أميركيون وإسرائيليون للعمل في اليمن، فضلاً عن تطابُق قائمة «التهديدات» لكلّ من إسرائيل والإمارات، ولجوء الأخيرة إلى الخيارات العسكرية في المقام الأول.
تَتمثّل معضلة الخطاب الإماراتي، هنا، في استدعاء قدرة متصوَّرة تفوق حجم الإمارات


في خضمّ ذلك، يلاحَظ وجود صلة جنوب أفريقية مهمّة بالتطبيع الإسرائيلي - الإماراتي. إذ أصدرت وزارة الخارجية الجنوب أفريقية، عقب إعلان خطوة التطبيع تلك، بياناً (14 آب/ أغسطس 2020) تعيد فيه تأكيد «دعمها التاريخي» لفلسطين، على خلفية توتُّر جنوب أفريقي - إماراتي، وبدء بريتوريا في عام 2019 حظر مبيعات أسلحتها للإمارات (والسعودية). ولا يمكن فصل هذا المسار عن الوجود العسكري الإسرائيلي المتنامي في أفريقيا (الأمر الذي تعتبره جنوب أفريقيا تهديداً لمكانتها)، وتزايد تمترسه كمكوِّن رئيس في سياسات تل أبيب في القارّة، والتقارير عن وجود فرق كوماندوز تابعة للجيش الإسرائيلي في أكثر من عشر دول أفريقية (بينها دول كبرى مثل إثيوبيا ونيجيريا وكينيا) لتدريب القوات المحلّية في تلك الدول. ويرى هؤلاء أن إسرائيل ستُوظّف الإمارات (كما وَظّفت المملكة المتحدة في خمسينيات القرن الماضي)، بشكل متزايد «كأداة دبلوماسية» لها في القارّة، مستفيدة في ذلك من الاستثمارات الإماراتية المتنوّعة وقدرة أبو ظبي على توظيف نفوذها الاقتصادي. وعليه، يمكن أن تُمثّل الإمارات جسراً لإسرائيل نحو أفريقيا، تفعيلاً لمخرجات الاجتماع المهمّ الذي بادر بعقده يوسي كوهين، رئيس جهاز «الموساد» الإسرائيلي، في أبو ظبي (18 أغسطس 2020)، لاستكشاف إمكانات التعاون الأمني.
وعلى رغم التوجُّس الجنوب أفريقي، كان لبريتوريا نصيب في صفقات الأسلحة التي أعلنتها الإمارات في «مؤتمر الدفاع الدولي» في أبو ظبي ما بين 21 و25 شباط/ فبراير الجاري، حيث زَوّدت شركات السلاح الجنوب أفريقية القوات الإماراتية بالمُسيَّرات (درونز) بشكل خاص. كما لا ينفي هذا الموقف وجود تفاهمات بين بريتوريا وأبوظبي، إذ كشف خبراء أمميون، أخيراً، انتهاك إيريك برنس، مقاول الأمن الأميركي المُقرَّب من الرئيس السابق دونالد ترامب، بالتعاون مع ثلاث شركات في الإمارات، لحظر الأسلحة الأممي على ليبيا، حيث قَدّمت أبو ظبي ثلاث طائرات «هيلوكوبتر» جنوب أفريقية الصنع لدعم قوات خليفة حفتر في مسعاه قبل نحو عامين للاستيلاء على العاصمة طرابلس. ومن هنا، لا يمكن توقُّع أن تتجاوز معارضة جنوب أفريقيا للارتباط الإماراتي الإسرائيلي في القارّة حدود المساومة على دور أو حصة أكبر تُعزّز دور بريتوريا الإقليمي والاقتصادي على أكثر من مستوى (دولي وإقليمي وإقليمي فرعي في منطقة أفريقيا الجنوبية).

وعود متخيَّلة
في استباق لنيل عضويتها في مجلس الأمن العام المقبل (2022)، تَعهّدت الإمارات، منتصف شباط، في خطاب دعائي ومتهافت شكلاً، ووصائي - وإن بدا نقدياً - مضموناً، بالعمل على تفادي إغفال مناقشات مجلس الأمن المُتعلّقة بالتحدّيات الأفريقية، معتبرة أنه لا بدّ أن يكون للحكومات الأفريقية والمنظّمات الإقليمية صوت أقوى داخل الأمم المتحدة، وأن يكون مجلس الأمن أكثر استجابة لحاجات الأعضاء الأفارقة وتطلُّعاتهم، الأمر الذي يتطلّب «موارد كافية تضمن الحفاظ على السلام والنمو الاقتصادي»، ولا سيما في إقليم غرب أفريقيا الذي يقع تحت وطأة تهديدات الجماعات الإرهابية والإجرامية.
تَتمثّل معضلة الخطاب الإماراتي، هنا، في استدعاء قدرة متصوَّرة تفوق حجم الإمارات، التي لم يكن لها لعب هكذا دور في أفريقيا لولا تآكل المنظمة القارّية وارتباطها بأجندات شركاء القارّة الدوليين، ومن بينهم الإمارات. كذلك، ثمّة تسطيح إماراتي للمشكلات الأفريقية، بالقول بأن حلها يتوقّف على أدوار دول مجلس الأمن الدائمة العضوية، كما أن الخطاب برمّته متناقض مع المقاربة العملية للإمارات أفريقياً، من جهة الاهتمام بالروابط بين أزمة الموارد وانعدام الأمن، الأمر الذي ينكشف تماماً عند مطالعة الدور الإماراتي في أمثلة الصومال (تعزيز النزعة الانفصالية لإقليم أرض الصومال عبر آلية استغلال موارده الاستراتيجية، وبالتنسيق مع إثيوبيا، وعلى نحو يناقض مصالح دولة بأهمية مصر أفريقياً وشرق أوسطياً) وإريتريا وجيبوتي وليبيا وغيرها.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا