لم يكن المشهد الاحتفائي بالسنوية الأولى لاعتلاء سلمان بن عبد العزيز عرش مملكة آل سعود خلفاً لأخيه عبد الله، على غير المتوقع من جمهور موالين ومنتفعين توالوا على «تجديد البيعة». لا غرابة في رتابة الصورة داخلياً، مع فرادة طبيعة النظام هناك، وما يفرزه، بالضرورة، من انعدام للحياة السياسية، لكنّ في المناسبة بحد ذاتها موعداً لتوقف خصوم المملكة كما أنصارها على السواء، بلحاظ ما لهذا النظام من تأثير في ملفات المنطقة الأمنية والسياسية والاقتصادية، وتنظيم جردة حساب لميزان النجاحات والإخفاقات.
سجّلت السياسة الخارجية للسعودية في السنة الأولى من عمر فريق الحكم الجديد، تغيّرين جذريين طاولاها. تمثّل الأول في جديد الرؤية الخاصة بثالوث السلطة (محمد بن سلمان، ومحمد بن نايف، وسلمان بن عبد العزيز). سريعاً تكشّفت قرارات الديوان الملكي، عن عقل أكثر اندفاعاً وحماسة وتصلّباً لدى أمراء الخلَف، منه لدى أمراء السلف. غادر المنطق الهادئ الغالب عليه النفَس الدبلوماسي، قصور جدّة والرياض، وهو المنطق الذي طبعت به سياسات السعودية في عشر سنوات من عهد عبد الله. عادت الأمور إلى المربع الأول، أيام الملك فهد، بل لا غرو في القول إنها فاقت عهد الأخير تشدّداً. أقرب تشبيه لتمثيل التمايز بين عهدي سلمان وأخيه عبد الله، هو التمايز المستنتج من مقارنة ولايتي الرئيسين الأميركيين على التوالي؛ جورج بوش وباراك أوباما. يصح أن نصف سلمان بـ«بوش السعودية»، فيما مثّل سلفه عبد الله «أوباماها».
بدا عادل الجبير مملّاً ومفارقاً للواقعية السياسية

الحدث المهم هو الآخر، الذي تزامن مع التغيير في سدّة الحكم بالمملكة، وفاة «عاهل الدبلوماسية» السعودية سعود الفيصل، بعد 40 عاماً من عمل السياسي المخضرم المتواصل وزيراً للخارجية السعودية. ورث الحكّام السعوديون الجدد إراثاً ثقيلة على صعيد السياسة الخارجية، أهمّها الملف الرئيسي: الحرب المفتوحة مع إيران وحلفائها في المنطقة. وجدت الإدارة الجديدة نفسها في ربع الساعة الأخير، من سباقها مع الملف النووي الإيراني، بغية إحباط المفاوضات بين طهران والدول الكبرى ومنع الإيرانيين من التوصل إلى خواتيم سعيدة في الملف. خواتيم يستحيل بموجبها التنافس مع الغريم في الضفّة الأخرى للخليج، أشدّ تعقيداً وأكثر كلفة، بما يؤمنه من أريحية سياسية واقتصادية لمصلحة إيران، التي مثّلت على الدوام هاجساً لدى الرياض برغم الحصار.
تحرّك السعوديون في تنسيق غير رسمي مع تل أبيب، محاولين ــ بدعم فرنسي لم يصمد طويلاً ــ صرف إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، عن إمضاء الاتفاق مع إيران. عادت السعودية خالية الوفاض. وقّع الاتفاق، ومن ثمّ تخطّى مخاوف عدم التطبيق مع رفع العقوبات أخيراً. تحرّكها الآخر باتجاه أي طرف تصنفه «محسوباً» على إيران، من البحرين إلى نيجيريا، لم يثمر سوى توجيه ضربات لهذه القوى، أشبه ما تكون بالانتقامية والعاجزة عن «الإماتة»، ولو كانت مؤلمة مرحليّاً.
لم يكن فريق سلمان يتجرّع مرارة الخيبة من الحلفاء الغربيين جرّاء الاتفاق مع إيران، حتى كانت بانتظارهم كأس لا تقلّ مرارة عن الأولى؛ تحرّك قطار التسوية السياسية في سوريا، على غير السكّة المشتهاة سعودياً. في الآونة الأخيرة، بدا وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، مملّاً ومفارقاً للواقعية السياسية وهو يردّد أسطوانة «على الأسد الرحيل فوراً»، فيما كان حلفاؤه الأميركيون يعلنون، دون خجل، تخلّيهم عن فكرة إزاحة الرئيس السوري، كشرط لأي تسوية سياسية للأزمة السورية. الطرف الآخر من العقدة السورية، مثّله الميدان السوري، مع فصل التدخل الروسي، واستحالة فرص نجاح مشروع تغيير موازين القوى على الأرض، متضائلة حدّ الامتناع.
أمّا في اليمن، حيث تجاوزت الحرب أيامها الـ300، فلا تزال القوات السعودية غارقة في وحول الجار الفقير، ومن خلفها أمراء قرّروا أن يخوضوا، للمرّة الأولى، الحرب بمعركة مباشرة. عشرة أشهر ولا أثر للأهداف التي أعلنت عشية إطلاق «عاصفة الحزم»: إعادة «الشرعية»، والقضاء على «أنصار الله».. انقلب الميدان اليمني إلى «كمّاشة» تستنزف النظام السعودي عسكريّاً واقتصاديّاً، وهو لا يجد اليوم حيلة في ضبط الساحة في جنوب اليمن، ولا التقدّم شمالاً، فضلاً عن وقف كرة النار التي تدحرجت صوب محافظات جنوب المملكة الثلاث: نجران وجيزان وعسير.
في المقابل، فإن البحث عن نجاحات للسياسة الخارجية السعودية في الأشهر الـ12 التي مضت، يحتاج إلى عملية مجهرية. تعيد الرياض الانتشار على صعيد علاقاتها الإقليمية والدولية، بعدما وجدت نفسها بفعل واقعها المأزوم في الخندق الإقليمي المستجد، الذي بات يضم مثلّثاً قوامه: تل أبيب ــ أنقرة ــ الرياض، وإذ يؤمّن هذا التحالف غير المعلن للسعوديين مديات أوسع للتحرّك الإقليمي، يرسم في الوقت عينه صورة عن تضعضع مكانة النظام السعودي.
تودّع الرياض السنة الأولى على حكّامها الجدد، ومعها ثقة كثيرة بفريق الحكم الذي أثبت تهوره وصبيانيته في التعاطي مع ملفات السياسة الخارجية، لتستقبل سنة لا تقل دسامة في استحقاقاتها.