لا ينتظر أهل فلسطين درساً من أحد في كيفية مقاومة الاحتلال. هم، اليوم، يشرحون لنا سبل التخلص من كل إحباط أو تعب أو حصار. ويشرحون، لمن يريد أن يفهم، أن إرادة المواجهة متى حضرت عند أصحاب عقول متجددة وقلوب قوية، تسمح بالكثير. وما نشهده على صعيد القدرات العسكرية ليس سوى نتاج تعب عمره سنوات وثمنه عرق ودماء ودموع. وهو عمل يؤتي ثماره كل لحظة. ومن خبر المقاومين ومواجهاتهم يعرف أن ما يجري في فلسطين، يحيلنا الى واقع جديد مهما طالت الحرب وعظمت التضحيات.في الهدف المركزي، كما عبّرت قيادات المقاومة، ما يجري الآن يعمل على محو نتائج عقدين من الجهد المعادي الذي قاده العدو بمساعدة عملاء ومضلّلين وكسالى في سياق التفتيت الفلسطيني، سياسياً وجغرافياً وإنسانياً واجتماعياً. ما يجري اليوم هدفه بسيط وواضح، وهو يقول إن ثمة جدراناً من ورق ونفوساً ميتة تحكمت بعقل وقلب من افترض أنه يمكن تحويل الشعب الفلسطيني الى شعوب فلسطينية، وتحويل مناطق فلسطين الى مستوطنات فلسطينية مقطّعة الأوصال. وبالتالي، فإن الأسئلة ــــ اللغز التي لا يعرف المنظّرون والمفكّرون والاستراتيجيون في الأمن وعلم الاجتماع والسياسة الإجابة عنه، هو نفسه الحقيقة التي تقول إن غالبية فلسطينية ساحقة لا تزال تؤمن ليس بحقها في استعادة كل ما خسرته طوال سبعة عقود فحسب، بل إنها مستعدة، جيلاً بعد جيل، لتسخين العقول والقلوب وإظهار القدرة، وليس العزم فقط، على تذكير كل من يهمّه الأمر بأن أهل فلسطين لم ينسوا بلادهم ولا هويّتهم المشتركة ولا قضيتهم الموحدة، وأن فكرة المقاومة تتفوق على كل التجمعات الفئوية، وأن حراك المقاومة وفعلها يتجاوزان كل الأطر البليدة أو العميلة على حدّ سواء. وبقدر ما شاهدنا عظمة صواريخ المقاومة التي شلّت كيان العدو، نشاهد عظمة أبناء مدن وقرى الوسط والشمال في فلسطين التاريخية وهم ينتفضون للتذكير بأصل هويّتهم ونهائيّتها.
ولأن الأمر على هذا النحو، يجب مناقشة المتضامنين مع أهل فلسطين، وهم يقعون بين منزلتين: عالم بعيد صار واضحاً لديه أن المشكلة تكمن في نظام فصل عنصري يحكم الكيان المحتل، ويجب التخلص منه، ويعرب هؤلاء عن دعمهم حق الفلسطينيين في الاستقلال والحياة الكريمة، وبين آخرين من أبناء هذا العالم العربي ومن أصحاب الفكر التحرري في العالم. وهؤلاء لا يمكن قبول تضامنهم الإنساني مع فلسطين، لأن من يدعو الى حماية حقوق الفلسطينيين السياسية والمعيشية يتصرف كأننا أمام حكم له شرعيته، لكنه حكم فاسد واستبدادي.
باكراً، حتى لا نكرر أخطاء الماضي في تقييم مواقف التحركات الشعبية أو مواقف بعض النخب من القضية الأساسية، يجب توضيح حقيقة أن إسرائيل ليست دولة مستبدة فقط، بل هي دولة مغتصبة للحق. وأن الفلسطيني هناك، لا يعاني نقصاً في موارد العيش فقط، بل يعاني حرمانه حقه في منزله وأرضه. وبالتالي، من يفترض نفسه أنه في موقع المعنيّ بقضية الفلسطينيين، عليه أن يدرك حقيقة أن ما هو مطلوب ليس تعديل سياسات النظام الحاكم في كيان الاحتلال، ولا توفير ضمانات من هذه الجهة العربية أو الدولية لعدم التعرض للسكان الفلسطينيين. بل المطلوب، بشكل واضح، دعم معركة إزالة هذا الكيان بكل تركيبته، وتدمير كل بناه السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والاجتماعية. وهي معركة تدمير رموز هذا الكيان من علم واسم ولغة وثقافة وعقلية. وهذا الفعل له اسم واحد وهدف واحد: معركة إزالة إسرائيل من الوجود.
الاختراق الثقافي الغربي الهائل في عقول نخب وتيارات عربية كثيرة، وخصوصاً تلك التي تقدّمت المشهد باسم الربيع العربي، هو اختراق استهدف تحويل القضية الفلسطينية الى قضية إنسانية توجب علاجات ذات طابع مطلبي. هؤلاء الذين يعودون اليوم الى نغمة الثورة السلمية ويعطون أبناء فلسطين درساً في كيفية استعادة الحقوق، ليسوا سوى الصدى المدني لفعل الاستعمار العسكري في الاحتلال والقتل والتهجير والقهر. ألا يرى هؤلاء أن ما يجري في حي الشيخ جراح ليس سوى تكرار لفعل التهجير الدموي الذي انطلق منذ عام 1948؟ وبالتالي، هل نتصدّى لهذه البربرية بخطابات أعدّها العقل الغربي وكرّرها المتضامنون مع المشكلة الإنسانية التي يواجهها الفلسطينيون في القدس والضفة الغربية وغزة؟
من يدعو إلى حماية حقوق الفلسطينيّين السياسيّة والمعيشيّة يتصرّف كأنّنا أمام حكم فاسد له شرعيّته


من محاسن الجاري أن الأمر لا يسير على هذا النحو، ومن شكّك في خيار المقاومة المسلحة كوسيلة أولى للتحرير، ومن هاجم ــــ ولا يزال ــــ المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق بحجة سياسية أو مذهبية أو عقائدية أو قومية، هو اليوم من يقف في الزاوية، وعليه الاختيار بين أن يكون في قلب معركة توجب حمل السلاح أولاً وثانياً وثالثاً، وبين أن ينزوي ــــ ويعيرنا صمته ــــ داخل مكاتب جمعيّته غير الحكومية.
ولهؤلاء، يجب معرفة الحقيقة الأكثر قساوة أيضاً، وهي أن القوى التي تقف خلف «صناعة المقاومة» تحتفل هذه الأيام، بفخر، بما أنجزته عقول وقلوب ودماء أبطال مجهولين في الأرض، لكن صورهم ترتفع يوماً بعد يوم في كل منازل الناس الطيبين. وهذا الجيل من المقاومين يشعر اليوم بأن التحدي أمامه ليس سوى رفع مستوى الجاهزية، وتقديم عناصر النموّ على صعيد الخبرات والكميات لتعزيز قدرات المقاومة، والانتقال بها من مرحلة الرد المباشر الى مرحلة الرد المدمر، وهي حال فصائل قوية في محور المقاومة، تعرف أنه ليس عليها حتى الإنصات الى صوت المنهزمين والعملاء، الذين عندما يحاصرهم العار، يعتقدون أنه يمكن الإفلات بفعلتهم الشنيعة بالتآمر على المقاومة، من خلال رفع علم أو ارتداء كوفية أو إرسال تحية تضامن.
العلم يقول بالمعادلات الواضحة غير القابلة للنقض، وأهمّ درس لنا اليوم هو: من يقف في وجه إسرائيل لا يمكنه الوقوف في وجه المقاومة!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا