اقابله يوميا في غدوي واصالي، وكثيرا ما امازحه بطرح السلام بلغة مختلفة، ليرد سلامي بلغات متعددة: من العربية الى العبرية مرورا بالانكليزيه والالمانية .. كل ذلك مع بسمة غريبه عجيبة، لا تجدها الا على مبسمه، برغم شظف العيش وقسوة الحياة. فالحياة تعاند «العم علي» كما يقول منذ زمن «بس هوي دايرلها قفاه ومش فارقه معو، اجت غنّت وما اجت غنّت»!امثلة دائمه يضربها العم علي لنا، كلما مر به احد وسأله عن حاله واحيانا يزيد عليها: «من الله منيح … ليش هوي ضل شي منيح بهالدنيا؟ هياني عايش غصبا عنها»! (اي الحياة )، كلما أراه عاد بي الزمن بعيدا الى الخلف، الى ايام الدراسه، حيث كان العم علي يبيع على بسطة لاولاد المدارس، وكان شعاره يومها «معك؟ خوذ واذا ما معك كمان خوذ من عمك علي», وتنتقل بي الذاكره سريعا إلى ايام الشراره الاولى في مخيم البارد ايام العز والمجد، عز الثورة الفلسطينية ومجدها، حيث اذكر يومها كيف كان علي يقود تظاهره كبيره ضد المكتب الثاني، وقهره للفلسطينيين، هو وثلة من الشباب المنتمي سرا إلى الثورة، والتي لم تكن بعد على نحو معلن في مخيماتنا.

تعود بي الذاكرة، كلما أراه، الى طفولتنا. وكيف كنا نتتبع من يلبس البوط الفدائي الاصفر مسافات طويله من اجل الفرجه فقط. يومها كنا نشعر بالفخر ونتسابق نحن الصغار لنجمع ما تيسر من خبز من افران المخيم لنقدمها إليهم. كان الفدائي بنظرنا شيء اخر وانسان من نوع اخر، حياته قصيرة لانه مشروع شهادة.
تراه دائما جالسا على كرسيه نهارا. وان مررت بجانبه لا يسمح لك باكمال الطريق من دون كأس من الشاي ممزوج بقليل من «المريمية» (القصعين)، يغليها «العم علي» على نار هادئه خصيصا من اجل ان يكسبك في خيمته بضع دقائق. فمن العيب ان تمر امامه دون التوقف لتناول شيء ما من معروضاته اليومية، التي هي مصدر رزقه الوحيد. «العم علي»، الذي لا يقام اعتصام او مسيرة او مهرجان او ندوة او وقفة من اجل فلسطين، او تضامنا مع شعب شقيق او صديق، الا وجدته حاضرا بقلبه ووجدانه، إما هاتفا او رافعا لافتة، او متحدثا بطلاقة غير معهودة بمصطلحات اصبحت ماركة مسجله باسمه. يمضي نهاراته في بيع ما تيسر من خضروات او فاكهة او حبوب، وليلا يبقى وحيدا في خيمة، هي بيته ودكانه ومقره، بعيدا عن «قرف الدنيا» كما يقول. أساله: لمَ يا عم علي تترك بيتك لتسكن هنا؟ يجيب ببسمته المعهودة «تعودت الخيمة، ليش احنا الفلسطينية شو رح يطلعلنا؟ يمكن بس نموت يحطونا بخيم» ويقهقه ضاحكا.
الملعب متنفس سيسهم في تخفيف أمراض الشباب المتبطل

ولد «العم علي» كما يقول عام النكبة «كانت ولادتي نحساً على كل الشعب الفلسطيني! كان عمري 6 ايام فقط . انا يا عمي «شرارة»، في اشارة الى مسلسل مصري كوميدي لمحمد عوض، عرض قديما في السبعينيات، وكان يتحدث عن مغامرات مواطن منحوس اسمه شرارة.
لجلساته طعم ونكهة خاصة تمتزج بالمرارة دائما، تجدها حينا ناقدة ساخره لاذعة، واحيانا كثيرة ناقمة على الوضع على نحو عام الفلسطيني والعربي. وكثيرا ما يحدثك عن الطلقة الاولى والشرارة الاولى، التي كان العم علي من أول مداميكها شبلا في معسكرات «الهامة» و«ميسلون»، ومقاتلا في «العرقوب» خاض العديد من العمليات القتالية والاستطلاعية حينها، متنقلا من خيمة الى أخرى، ومن خندق الى اخر. تلك الفتره الذهبية في عمرالثورة كما يقول، كانت القاعدة العسكرية هي المعيار والمقياس «شو مفكر يا عمي؟ انو كلمة فدائي يومها هوينه؟ فدائي يعني بدك تعيش بالمغر والمعارك والقتال. فش قدامك غير عدوك وايدك على الزناد، هيك تربينا وهيك تعلمنا. كانت الاجتماعات بالقاعده والتدريبات بالقاعدة وكلو بالقاعده (العسكرية) لا كان في مكاتب ولا سيارات ولا كل هالزعبرات». ثم يقطب جبينه ويعقد حاجبيه وهو يقول «احنا اللي عن جد كنا مداميك للثورة.. وين صرنا وشو صار فينا؟». يبتلع غصة وهو يضيف «انا بحكيش عن حالي انا بحكي عن كتير من المناضلين المنسيين المزبولين الي مش ملاقين يوكلو». وقبل ان يكمل تبدأ السعله القوية نتيجه الربو، الذي يعانيه العم علي، حيث ان تردده على المستشفى بات على نحو اسبوعي. « صرت زبون دايم عمي للمستشفى»، عن تلك المرحلة يحدثني بشغف كأنه يعيش تفاصيلها الان. تبرق وتلمع عيناه ويبتلع بضع قطرات دمع تتجمع في الاحداق، حين يتحدث عن الشهيد ابو علي اياد، ثم تنتابه فجأة نوبة ضحك حين ينتقل للحديث عن معتقل انصار، الذي قضى فيه 3 سنوات، وكيف كان يضحك على الجنود الصهاينة ونهفاته معهم، وكيف كان يشلحهم كما يقول علب الدخان، «خرجنا من انصار لننتقل الى الجزائر، ونتشتت في بلاد الله الواسعة، من يومها انتهينا يا عمي.. تفرقنا على الدول العربيه وفرقتنا الدول العربية».
علي الطيب، برغم كل نضاله من عام 1966 حتى عام 1985 مقاتلاً، ما زال مؤمنا بقضيته، ويعمل لها بما يستطيع. وهو يؤكد ان «هذا الزمان ليس زماننا، وهذا العصر ليس عصرنا. انا يا عمي مثلي مثل الكثيرين من الناس المناضلين مهملين مزبولين مرميين على مزبلة التاريخ.. وهاي يا عمي امة عربية فاشلة، وهذا ربيع كسنجر»، يختم العم علي بتشبيهه هذا الآتي من زمن سياسي قديم، ويضيف، «يكفيني قول الشاعر كل قلوب الناس هويتي اسقطوا عني جواز السفر. رحم الله ايامك يا عم علي. يا علي الطيب..».



الفدائيون كانوا، كما المقاومين اليوم، حالة عربية عامة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. وقد لا يعرف اكثر اللبنانيين ان الفيلم الاشهر الذي يتحدث عن هؤلاء كان لبنانياً. الفيلم الذي اخرجه الراحل غاري غرابتيان وكتبه انطوان غندور عام 1969، يتحدث عن مجموعة من الشباب الفدائي الفلسطيني، تخطط وتنفذ عملياتها في الأراضي التي احتلتها إسرائيل... اشتهر هذا الفيلم كثيراً، ويعرف على انه من أهم محطات شغل السينما اللبنانية.