منذ بداية الحرب السورية وضعت الإدارة الأميركية برنامجين معلَنين: الأوّل يرعاه البنتاغون، ويهدف إلى «تدريب وتجهيز معارضة معتدلة لمواجهة داعش». والثاني تديره «وكالة الاستخبارات المركزية» (سي آي إي). لم يستطع أحد إخفاء فشل برنامج البنتاغون بإعداد «مقاتلين معتدلين يحاربون داعش»، فنعاه المسؤولون والإعلام، وأوقف رسمياً العام الماضي. لكن برنامج «سي آي إي» أحيط منذ البداية بسرية شبه تامّة، وجلّ ما رشح عنه بعض المعلومات الرسمية التي تقول إن هدفه «تدريب مقاتلي المعارضة وتقديم الدعم الاستشاري غير المسلّح لهم»، وإن ضبّاطه يعملون «في مناطق حدودية في الأردن وتركيا». لكن الرئيس الأميركي باراك أوباما قرّر عام ٢٠١٣ «سرّياً» تحويل هدف البرنامج إلى «تسليح مقاتلي المعارضة إضافة إلى تدريبهم»، على أن يكون هذا السلاح موجهاً ضد الجيش السوري. بعض وسائل الإعلام الأميركية نشرت بعض المعلومات عن برنامج «سي آي إي» حينها وما سمّي «مركز العمليات العسكرية» (غرفة «موك») ومركزه عمّان و«تعاون سي آي إي مع أجهزة إقليمية أخرى» لإدارة عمليات المعارضة على الجبهة الجنوبية.
نسبة التمويل فاقت بأشواط مساهمات كلّ من قطر وتركيا

لكن مقال صحيفة «ذي نيويورك تايمز» قبل يومين تضمّن معلومات تنشر للمرّة الأولى حول تمويل السعودية لبرنامج «سي آي إي» منذ نشأته ولعب الولايات المتحدة دور قائد العمليات الفعلي على الأراضي السورية.
«منذ لحظة انطلاقه، حصل برنامج سي آي إي الذي سُمّي Timber Sycamore أي خشب شجر الجمّيز، على الدعم السعودي» أجمع المسؤولون الأميركيون الحاليون والسابقون من الذين استجوبتهم الصحيفة بشرط عدم الكشف عن أسمائهم. «كانت الوكالة تعلم بأن لديها شريكاً مستعدّاً للدعم» يشير المقال. المملكة لعبت، كالمعتاد دور «الموقّع على الشيكات» بنسبة تمويل فاقت بأشواط مساهمات كلّ من قطر وتركيا في البرنامج، ورغم التكتم الأميركي على الرقم الدقيق للمبالغ السعودية قدّرها بعض المسؤولين بـ«بضعة مليارات الدولارات».
المقال (بتوقيع مارك مازيتي ومات أپوزو) يضع الدعم السعودي لعمليات وكالة الاستخبارات الأميركية في سوريا بخانة «التعاون المستمر منذ عشرات السنين» ويذكّر بسلسلة الحروب التي خاضتها «سي آي إي» بأموال سعودية من دون أن يكون هناك بالضرورة مصلحة سعودية مباشرة من تلك الحروب. المقال ذكّر بفصول تمويل السعودية لحروب أميركا في أنغولا وأفغانستان ونيكاراغوا وغيرها وصولاً إلى سوريا. في سوريا، وحتى قبل موافقة أوباما رسمياً على «المهمة التسليحية» قامت «سي آي إي» عام ٢٠١٢ بـ«ترتيب صفقات سلاح للسعودية بقيادة بندر بن سلطان استخباراتياً حينها، كان أبرزها صفقة ضخمة مع كرواتيا»، يكشف المقال. لكن مقال «ذي تايمز» يبيّن أيضاً كيف أن واشنطن تؤدي دور القائد الفعلي في جزء أساسي ومباشر من الحرب الميدانية في سوريا، بينما يلعب الآخرون (السعودية، قطر، تركيا) دور «بنوك التمويل».
المقال يشير إلى أنه منذ بداية عام ٢٠١٢، وعلى مدى أكثر من سنة، شاهد الأميركيون «تدفّق المال والسلاح الخفيف والثقيل من قطر والسعودية وغيرها من دول الخليج عبر الحدود التركية إلى المقاتلين المعارضين في سوريا»، وقد أبدى بعض المسؤولين الأميركيين حينها «قلقهم من وصول المال والسلاح إلى مجموعات مرتبطة بالقاعدة». في أواخر عام ٢٠١٢ عقد اجتماع سرّي قرب البحر الميت في الأردن، بين مدير الاستخبارات الأميركية في ذلك الوقت ديفيد بيترايوس ومسؤولين استخباراتيين من دول خليجية، وفي الاجتماع تكلّم بيترايوس مع الحاضرين بـ«لهجة قاسية جداً» و«أنّبهم» لـ«عدم تنسيق إرسال السلاح في ما بينهم أو مع ضبّاط سي آي إي في الأردن وتركيا»، ينقل المقال عن مسؤولَين رفيعين سابقين. وبعد أشهر قليلة على ذلك الاجتماع عدّل أوباما رسمياً مهمة «سي آي إي» ليضاف إليها «تزويد السلاح لمقاتلي المعارضة السورية». ومنذ ذلك الحين، يشرح المقال، باتت «سي آي إي» هي «التي تقود عمليات التدريب، بينما تقوم الاستخبارات السعودية والإدارة العامة للاستخبارات بتوفير الأموال والسلاح». الوكالة كانت تشرف على كل شيء عملياً، حتى إنها كانت تؤدي دور الوسيط أحياناً بين الدول التي تنضوي تحت إمرتها، كأن تحلّ مثلاً مسألة تأخير دفع الأموال السعودية للأردن البلد المضيف لغرفة العمليات...
مقال «نيويورك تايمز» يلفت إلى أن «التحالف بين السعودية ووكالة الاستخبارات الأميركية ما زال قوياً» وأن العلاقات بين «وزير الداخلية السعودي محمد بن نايف ومدير الاستخبارات الأميركية جون أو برينان لا تزال وثيقة منذ كان برينان مدير محطة الوكالة في الرياض خلال التسعينيات».
«السعوديون والأميركيون يعلمون بأنه لا غنى لأحدهما عن الآخر» في مثل هذه المراحل والظروف، يقول رئيس لجنة الاستخبارات السابق في الكونغرس مايك روجرز، فيما يخلص كاتبا المقال إلى أن «التحالف الأميركي ــ السعودي سيستمر عائماً على بحر من الأموال السعودية وعلى مصالح خاصة مشتركة بين الطرفين».