البيانات في واد، وما يحصل على الأرض في واد آخر. هذا ما تؤكده التناقضات بين المشهد الميداني، وبين إعلان «جبهة النصرة» التزامها بأوامر زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، والتوقف عن قتال تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام». «النصرة» أعلنت التزامها بأوامر الظواهري عبر بيان صدر أمس، حافظ على ذريعة استمرار القتال بين الطرفين، تحت عنوان «دفع الصائل» (رد العدوان).
مقدمة البيان الطويلة سردت وقائع الخلاف بين التنظيمين المتطرفين. وجرياً على عادة الفريقين، أصرّت «النصرة» على ارتداء لباس المظلوميّة، والتأكيد على أن «داعش» هو الذي يعتدي عليها. وذكّر البيان بأن القتال بين «الجهاديين» بدأ أول الأمر بين «داعش» و«الجماعات المقاتلة في الشام»، فيما «وقفنا يومها على الحياد رغم الاعتداءات المتكررة من جماعة الدولة علينا؛ سعياً منّا لحقن الدماء». وكرّر البيان التأكيد أن «الدولة رفضت كل أنواع الصلح والتحكيم المستقل، ورفضت كل المبادرات والمناشدات الداعية لإيقاف هذا القتال». و«بعد صدور كلمة لأمير جماعة الدولة (...) قام أتباعه بشن حملة شرسة على جبهة النصرة في دير الزور والحسكة، وقمنا بمطالبتهم قبل أن نرد عدوانهم وندفع صيالهم بتحكيم الشرع فأبوا ورفضوا، وحشدوا كل قوتهم منسحبين من أغلب مناطق تواجدهم ومن جميع خطوط تماسهم مع النصيرية».
وأضاف البيان: «إلى يومنا هذا ندفع صيالهم عن أنفسنا ولا نبتدئهم بقتال، وما يجري اليوم من قتال بيننا وبينهم في ريف حلب الشرقي إنما هو مرتبط بوقف صيالهم وعدوانهم عن إخواننا في دير الزور وفك حصارهم».
المعارك في
دير الزور أدّت إلى
نزوح نحو 60 ألفاً من سكانها

وحفلت المقدمة بذكر بعض مسوغات مقاتلة «داعش»، والتي لم تزُل أصلاً، مثل «مقتل الشيخ أبي خالد السوري»، و«قتل الأخ القائد أبي محمد فاتح»، و«إرسال القنابل البشرية والسيارات المفخخة على بيوت بعض رجال جبهة النصرة». ثمّ أعاد البيان سرد الأمر الذي وجهه الظواهري إلى أبو محمد الجولاني وجنوده بأن «يتوقفوا فوراً عن أي قتالٍ فيه عدوان على أنفسِ وحرماتِ إخوانهم المجاهدين وسائرِ المسلمين». وأعلن التنظيم الامتثال لأمر الظواهري، «مع الاستمرار بدفع صيالهم حيثما اعتدوا على المسلمين وحرماتهم». وحرصت على أن يكون «داعش» هو البادئ بوقف إطلاق النار، إذ «في الوقت الذي تعلن جماعة الدولة وقف عدوانها على المسلمين فإن إطلاق النار من جهتنا سيتوقف تلقائياً». كذلك أعلنت الامتثال لأمر الظواهري «بخصوص المحكمة، ونعلن عن رضوخنا لها فور تشكيلها». وتضمّن البيان نوعاً من «المغازلة» لعشائر دير الزور عبر إعلان الموافقة «على المبادرة الكريمة التي طرحها أهلنا «عشائر الفرات والخابور» بخصوص تشكيل محكمة مستقلة».

«الحرب الأهلية الجهادية» مستمرّة

لا يبدو أن كلمة الظواهري الأخيرة ستغير شيئاً في مسار «الحرب الأهلية الجهادية». ورغم عدم صدور موقف رسمي عن تنظيم «داعش» حتى الآن، غير أن كواليسه لا توحي بأنه أخذ الكلمة على محمل الجد. ومن المفيد في هذا السياق التذكير بأن «داعش» لم يقبل وقف الحرب حين كان وضعه العسكري على الأرض مهزوزاً، ما يجعلُ احتمال قبوله وهو في أقوى حالاته أمراً شبه مستحيل. فالتنظيم يؤكد أن سيطرته على دير الزور بالكامل باتت مسألة وقت. ويؤكد مصدر «جهادي» لـ«الأخبار» أن «التقدم الكاسح الذي حققه مجاهدونا دفع الظواهري إلى رمي هذه الورقة، في محاولةٍ لإنقاذ جبهة الجولاني». المصدر أكّد أن «الإعلان عن موقف نهائي في شأن كلمة الظواهري رهنٌ بقرار قيادة الدولة. والمخوّل بإعلانه هو الشيخ أبو محمد العدناني (المتحدث الرسمي باسم داعش). لكنّ جميع القيادات العسكرية وعلى رأسها الشيخ عمر الشيشاني (الأمير العسكري لداعش) ترى في الأمر فخّاً». وأضاف المصدر «كما فعلوا سابقاً يفعلون الآن. يزعمون أن لديهم مبادرة، وهم واثقون من أن الدولة لن تقبلها لأنها باطلة، ليكرروا اتهامنا بشق الصف، وتأليب الرأي العام الإسلامي ضدنا». وتجدر الإشارة إلى أن كلمة الظواهري لم تحمل في حقيقة الأمر معطى جديداً يدفع «داعش» إلى قبولها. بل هي تكرار لمشهد قديم، حيثُ سبق أن دعا إلى وقف القتال، والاحتكام إلى محكمة شرعية مستقلّة. الأمر الذي رفضه «داعش»، مؤكداً أن «المحكمة المستقلّة بدعة باطلة».
ميدانيّاً، استمرّت المعارك العنيفة في ريف دير الزور بين «داعش» من جهة و«النصرة» وحلفائها من جهة أخرى، إذ هاجم مسلحون تابعون لـ«لواء شهداء بدر» حاجزاً لـ«داعش» على طريق دير الزور ـــ الرقة، وقتلوا أربعة عشر من عناصر الحاجز. وهاجم مسلحو «داعش» ثلاثة مقار لـ«النصرة» في سعلو شرق موحسن. كذلك دارت معارك بين «النصرة» و«داعش» في الريف الشرقي. وأدت المعارك إلى حركة نزوح كبيرة في اتجاه قرى الخابور الغربي. وفي هذا السياق، أعلن «المرصد السوري لحقوق الإنسان» المعارض أنّ المعارك بين «الجهاديين» في دير الزور أدت إلى نزوح نحو 60 ألفاً من سكانها.