حمص | لن تعود مدينة حمص «عاصمة الثورة السورية» بعد الآن. مؤسسو «كتائب الفاروق» الشهيرة مع أقرانهم من «الجيش الحر» أعلنوا استسلامهم النهائي بخروجهم من حمص القديمة من دون أي خيار للعودة أو التراجع. بموجب اتفاقهم مع الدولة السورية، غادروا المدينة، ودفعوا ثمناً لخروجهم منها، من خلال إطلاقهم سراح عشرات المخطوفين المدنيين والعسكريين.
تشعر المعارضة بالمهانة نتيجة الاتفاق. تحاول عبثاً تسويقه كانتصار، معتمدة على أن المقاتلين خرجوا حاملين أسلحتهم الفردية. لكن الثمن الذي دفعته أظهر أن اليد العليا في هذا الاتفاق كانت للجيش السوري، لا للمقاتلين. إلا أن مشكلة المعارضة لا تقتصر على الشكل. فمن يقفون خلفها، والواقعيون فيها، يُدركون أن ما بعد حمص ليس كما قبلها، تماماً كالفارق بين ما قبل معركة القلمون وما بعدها، وبين ما قبل معركة القصير وما بعدها، وما قبل تطويق الغوطة الشرقية وما بعده. فحركة الجيش السوري والقوى الرديفة له ستكون أكثر ليونة من ذي قبل في محافظات حمص وحماه وريف دمشق، ما سيرفع من رصيده أيضاً في المنطقة الشمالية، حيث يستكمل هجومه لتطويق الأحياء الخاضعة لسيطرة المعارضين في مدينة حلب. ففي العاصمة الاقتصادية لسوريا، حاولت قوات المعارضة فتح جبهات متعددة، لإشغال الجيش السوري وإفشال تحركاته في ريف حلب ومنعه من تطويق مناطق المدينة الخاضعة لسيطرة أعدائه، وتحويله من محاصِر إلى محاصَر. لكن محاولتها فشلت، وعاود الجيش هجومه في شمال المدينة، وتوسيع رقعة الأمن حول الطرق الخاضعة لسيطرته في الجنوب الحلبي. وهذه المعارك تحتاج إلى عدد إضافي من الجنود، بات متاحاً نقله من حمص ومحيطها.
تأخر تنفيذ اتفاق حمص يومين متتاليين كان بعد محاولة المسلحين فرض شروطهم من دون جدوى، فبند تأجيل إطلاق سراح مختطفي بلدتي نبّل والزهراء (ريف حلب الشمالي) إلى ما بعد الخروج من حمص القديمة، قابله رفض قاطع من الحكومة التي أصرت على تنفيذ الاتفاق كاملاً وعلى نحو متزامن. 24 حافلة «نقل داخلي» ذات زجاج داكن، لحجب عدسات المصورين، تولّت منذ الصباح الباكر نقل 968 مسلحاً على 5 دفعات. بأسلحتهم الفردية، غادر أصحاب شعارات «الموت ولا المذلة» في الحافلات الحكومية نحو بلدة الدار الكبيرة في ريف حمص الشمالي، تاركين خلفهم أحياءً مدمّرة بشكل شبه كامل. كذلك تلثموا بـ«كوفيات» لإخفاء وجوههم، وهو ما طالب به قادتهم الذين تولوا عملية التفاوض مع لجنة المصالحة الوطنية في المدينة. وتقضي بنود الاتفاق، الذي أنهى الوجود المسلح من مدينة حمص بشكل كامل باستثناء حيّ الوعر، بعودة كلّ مخطوفي نبل والزهراء، وإدخال المساعدات الإنسانية إلى البلدتين الحلبيتين المحاصرتين، وتحرير عدد من مخطوفي ريف اللاذقية الذين اختطفوا في الرابع من آب من العام الماضي مقابل إخراج المسلحين من طريق حمص ـــ حماه الذي قامت بتأمينه أربع سيارات للأمم المتحدة بالتنسيق مع الجيش السوري، وتسوية أوضاع بعض المسلحين الذين يرغبون في البقاء في حمص، وهم في معظمهم من أهل المنطقة. الحافلات التي أقلّت المسلحين تجمّعت جنوبي مسجد خالد بن الوليد، في حيّ جورة الشياح. وإجلاء المسلحين تلاه دخول الجيش السوري إلى حيّ الحميدية، وسط المدينة القديمة. عناصر الجيش دخلوا الحي تدريجاً، وبحذر شديد، بحسب مصادر عسكرية. هذه المصادر أكدت «استمرار التريث» لحين إنهاء عملية إخلاء الأحياء القديمة، ليتمّ تطهير المنطقة من العبوات الناسفة والألغام، وفق خرائط جرى تسليمها إلى الجيش السوري، تطبيقاً لبنود الاتفاق. ومن المتوقع أن يستكمل الجيش تمشيط المناطق التي تُخلى تباعاً قبل السماح لأهاليها بالعودة إلى منازلهم بعد نزوح دام أشهراً طويلة.
بالتأكيد، لن يتمكّن جزء كبير من سكان الأحياء المهجرة من العودة إلى منازلهم بسبب الدمار الذي لحق بها. لكن الاتفاق أنقذ المدينة من دمار إضافي، ومن إراقة الكثير من الدماء في معركة كانت نتيجتها ستكون مطابقة لنتيجة الاتفاق: حمص تحت سيطرة الدولة السورية.
ومنذ إعلان إنجاز الاتفاق أمس، تصاعد الدخان الأسود في سماء الأحياء القديمة، حيث عمد المسلحون إلى حرق وثائق يمتلكونها، كذلك نشرت صور على صفحات التواصل الاجتماعي لالتهام النيران لكنيسة أم الزنار الأثرية.
أما شوارع حمص التي لم تشهد منذ مدة طويلة وقفاً لإطلاق النار لمدة خمسة أيام متواصلة، فلوحظ فيها الازدحام. حركة لم تخفِ غضب المواطنين، المفجوعين بسلسلة تفجيرات في الأسابيع الماضية.
«العتب» استهدف محافظ حمص طلال البرازي، الذي اتهمه بعض المواطنين بإدخال مؤن للمسلحين ضمن التسوية، التي أفضت إلى خروج المدنيين منذ أشهر. لكن المحافظ، بدوره، يوضح أنّ ما قام به هو «عمل حكومي وبتوجيه رسمي، ومن الطبيعي أن يفكر الناس بعواطفهم»، معرباً عن تقديره لعتبهم وغضبهم. وأكد، أيضاً، أن «ما نقوم به هو لحقن ما بقي من دماء وإنهاء المعركة من دون المزيد من الخسائر».