يطرح الغموض الذي يسلكه مسار الأحداث في تونس جملة تساؤلات عمَّا ستؤول إليه أحوال البلاد في ضوء إجراءات الرئيس قيس سعيّد «الاستثنائية»، والقاضية، حتى الآن، بإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي وعدد من وزرائه من مهامّهم، وتجميد عمل البرلمان لمدّة شهر قابلة للتمديد، وعن خطوات إضافية يمكن لـ«قصر قرطاج» فرضها إذا استدعت الضرورة، متعلّلاً بالأزمات السياسية والاقتصادية والصحّية العميقة التي تتخبّط فيها تونس. إجراءات يُبدي الغرب، كما دول الإقليم، ليونةً لدى مقاربتها، فيما يسندها وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى «العودة إلى المسار الديمقراطي»، وفق وعود سعيّد. إزاء هذا الواقع، تجد حركة «النهضة» نفسها مكبّلة اليدين، ومضطرّة إلى تقديم «تنازلات» في ظلّ غياب أيّ ظهير إقليمي أو دولي يدعم مشروع «المواجهة» مع الرئيس.ولم يتّضح، حتى الآن، ما إذا كان سعيّد يمتلك رؤيةً واضحة لمسار الأمور، على رغم وعوده بوضع خريطة طريق للمرحلة تكفّل «الاتحاد العام التونسي للشغل»، برسم خطوطها العريضة. وفي الانتظار، يواصل الرئيس التونسي تطبيق إجراءاته التي قضى آخرها بتكليف المستشار الأمني في رئاسة الجمهورية، رضا غرسلاوي، تسيير شؤون وزارة الداخلية، في ما عُدَّ رداً على مناشدات بعض منظمات المجتمع المدني ودول أجنبية رئيس الجمهورية بالإسراع في تشكيل حكومة جديدة. وفي مقطع مصوّر نُشر عبر صفحة رئاسة الجمهورية على «فايسبوك»، أطلّ سعيّد ليضفي على قراره تعيين غرسلاوي بُعداً دستورياً، كونه استند فيه إلى «الفصل 89»، قائلاً: «ليطمئنّ الجميع في تونس وخارجها بأنّنا نحتكم إلى القانون»، ومذكّراً بأنه درّس «الحقوق والحريات في إطار القانون الدستوري وحقوق الإنسان لأكثر من ثلاثة عقود... اطمئنوا، إنّني حريص على الحقوق والحريّات أكثر بكثير من حرصكم عليها». وفي موازاة هذه التطمينات، أطلق الرئيس التونسي «معركة ضدّ الفساد»، مطالباً عشرات رجال الأعمال بإعادة «أموال منهوبة» في ظلّ حُكم زين العابدين بن علي، ومنتقداً «الخيارات الاقتصادية السيئة» المتّخذة خلال السنوات الأخيرة في البلاد. وهو موقف جاء في أعقاب إعلان القضاء أنه يحقّق، منذ منتصف الشهر الحالي، في اتهامات حول حصول ثلاثة أحزاب، وهي: «النهضة»، صاحب الكتلة الأكبر في البرلمان، و«قلب تونس» وحركة «عيش تونسي»، على «تمويل أجنبي وقبول هبات مجهولة المصدر» قبل الانتخابات التشريعية عام 2019.
يحدث ذلك وسط خلافات عميقة تظلّل قيادة حركة «النهضة» المنقسمة حيال الأسباب التي قادت إلى الوضع الراهن، فضلاً عن الرؤى المتعلّقة بالخروج من الأزمة. وفي هذا الإطار، كتب القيادي البارز في الحركة، محمد القوماني، في منشور عبر صفحته في «فايسبوك»، أنه «لا بدّ من مسارعة قيادة النهضة إلى الاعتذار للشعب التونسي الذي أعطاها أكثر من فرصة ومنحها المرتبة الأولى في الانتخابات. ولها في ظلّ المرحلة الجديدة ما بعد القرارات الرئاسية لمساء 25 تموز 2021، مجال للنقد الذاتي المعمّق في أفق مؤتمرها الـ11، المقرّر نهاية هذه السنة، لإعادة النظر في خياراتها وتموقعها. ولن تحجب أخطاء النهضة والمنسوب الشعبي العالي في تحميلها المسؤولية؛ الانتباه أيضاً إلى أخطاء بقية الفاعلين ومسؤولياتهم من موقع المشاركة في الحكومة أو دعمها، أو موقع الوجود في المؤسسات والأحزاب والمنظمات الفاعلة وممارسة التعطيل من خلالها». خلافاتٌ باتت تُهدِّد، وفق مراقبين، وحدة الحزب وتماسكه، ما اضطرّ رئيس «النهضة»، راشد الغنوشي، للدعوة، أوّل من أمس، إلى «حوار وطني» في البلاد، مُبدياً، في مقابلة مع وكالة «فرانس برس»، استعداد حزبه لـ«أيّ تنازلات من أجل إعادة الديمقراطية»، ومشدداً على أن «الانقلاب سيفشل». ونبّه الغنوشي، في الوقت ذاته، إلى أنه إن لم يكن هناك اتفاق حول الحكومة القادمة، «سندعو الشارع إلى الدفاع عن ديمقراطيته»، كاشفاً عن أنه، ومنذ صدور القرارات الرئاسية، «ليس هناك حديث مع السيد رئيس الجمهورية ولا مع أعوانه... لكن نرى أنه ينبغي أن يكون هناك حوار وطني من أجل كيف تكون لتونس حكومة».
ويُعزى قرار «النهضة» التراجع عن «حزمها»، وعن دعوتها أنصارها للنزول إلى الشارع احتجاجاً على قرارات سعيّد، إلى المواقف الدولية، كما الإقليمية، التي أبدت حذراً شديداً حيال إجراءات الرئيس، فيما أوفدت الولايات المتحدة، قبل يومين، مساعد وزير الخزانة المكلّف شؤون أفريقيا والشرق الأوسط، إيريك ماير، إلى تونس، حيث التقى محافظ المركزي، مروان العباسي، ليؤكد استعداد بلاده لدعم مساعي تونس لدى المؤسسات الدولية المالية، مشدداً على «ضرورة التعجيل في استكمال المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، لتفادي تفاقم الأزمة الاقتصادية، والتي زادتها انعكاسات الوباء حدّة وتعقيداً». ومن جهته، أعلن وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أن الرئيس التونسي أكد له أن القرارات الاستثنائية التي اتّخذها ليل الأحد، تهدف إلى إعادة البلاد إلى المسار الديمقراطي، مشدّداً، في الوقت عينه، على ضرورة أن يُقرن هذه الأقوال بالأفعال، وذلك خصوصاً من خلال إعادة فتح البرلمان. وأعلنت وزارة الخارجية المصرية أن الوزير سامح شكري ونظيره الفرنسي جان إيف لودريان تناولا، في اتصال هاتفي، الوضع في تونس وعبّرا عن دعمهما لمؤسسات الدولة في سعيها إلى تحقيق الاستقرار والأمن.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا