يُعدّ تحرير حمص ــــ خصوصاً لدى استكمال تحرير كامل أرجاء المحافظة ــــ بداية النهاية للحرب السورية؛ لا يعني ذلك أن تلك الحرب انتهت. بالعكس؛ فالمهمات الحربية التي تنتظر الجيش العربي السوري عديدة وشاقة: في حلب والقنيطرة ودرعا ومحافظات الشمال الشرقي.
وهي ستكون عنيفة جداً ومتواصلة في النصف الثاني من هذا العام. ولكن حمص هي أكبر المحافظات السورية من حيث المساحة (حوالي 42 الف كيلو متر مربع)، ومدينة حمص هي ثالث المدن السورية بعد دمشق وحلب. والأهم أنها تقع في قلب سوريا، وتشكّل عقدة المواصلات السورية مع المحافظات الجنوبية والساحلية والشمالية والشرقية. ولذلك، سمّتها العصابات المسلحة، «عاصمتها»؛ لكنها تحولت، اليوم، إلى قاعدة الدولة الوطنية، ولعلها تكون عنوان إعادة البناء.
كل ذلك معروف، مثلما هو معروف أن حمص هي نموذج للنسيج الطائفي والاتني السوري؛ ففيها سُنّة وعلويون ومسيحيون وعرب وأرمن وتركمان، وفيها موالون للدولة وللنظام ومعارضون، ومنهم مسلحون خاضوا معارك ضد الجيش، وخطفوا شيوخاً ونساء، وقتلوا أبرياء، وأحرقوا كنائس وهجّروا عائلات ونهبوا دوراً... الخ؛ كل ذلك ــــ وقد تكون تفاصيله موجعة جداً ــــ ليس له سوى علاج واحد هو السماح والمصالحة واستعادة روح الإخاء؛ وهذه هي المهمة رقم واحد في إعادة بناء حمص... وسوريا كلها.
لا ضغائن ولا انتقامات ولا حتى سجالات؛ فالمطلوب، اليوم، دينامية فعّالة للمصالحات الأهلية بين العائلات والتجمعات والأفراد؛ مصالحات تنهض لها القوى الحزبية والمجتمعية والمثقفون والوجهاء ورجال الدين، ليل نهار، في ظلال إطار أمني حازم، وإنما ناعم ومتفهم وتصالحي وحريص على الكرامات؛ فلا يمكن الانتصار على الحقد بالحقد، ولا على انحطاط الإنسانية إلا بالكثير من الإنسانية. هنا، في مجال تحقيق هذه المهمة الصعبة المؤلمة، إنما الضرورية لنهضة سوريا، لا ينفع نشاط السلطات، وحده؛ إنه واجب شخصي بالنسبة لكل وطني حمصي أو سوري؛ فليرتفع شعار : «حمص المحبة»، فوق كل شعار، وفوق كل نقاش، خصوصاً على صفحات التواصل الاجتماعي.
كل أبناء حمص، وتحديداً من كان منهم في صف «المعارضة»، ينبغي أن يشعر بالطمأنينة الكاملة، وبأنه عضو في المجتمع المحلي المنتصر على عصابات الموت والهمجية، و جزءاً لا يتجزّأ من عملية إعادة البناء؛ سيؤدي ذلك إلى تحريك مشاعر السوريين الذين لا يزالون يدعمون المسلحين في أماكن أخرى، نحو المصالحة ورفع راية الدولة الوطنية، ومحاصرة المقاتلين الغرباء، وحقن الدماء، وتقصير فترة الحرب وآلامها.
لا مجال للسماح لأي إساءة أو حتى إشارة طائفية، وبالذات إزاء الذين يعتبرون أنفسهم، عن ضلالة، «مهزومين»؛ رسالتنا هي أن الجميع سوريون، والجميع في حماية الجيش، والجميع أعضاء متساوون في عضوية الدولة الوطنية.
يمكن، في حمص الآن، تجاوز الاعتبارات البيروقراطية، وتشكيل مجلس مدني تعددي من الفعاليات المتجهة نحو إعادة البناء المجتمعي؛ سيتابع مجلس كهذا المصالحات الاجتماعية والتظلّمات ويستقبل الاقتراحات ويراقب الخدمات وينعش الحياة الثقافية ويقدم نموذجاً جديداً في الإدارة الشعبية، يشكّل رسالة لسوريا الجديدة.
انتصار حمص، بالمعنى العسكري والإنساني والثقافي، سيكون انتصاراً لكل المحافظات السورية، ويفتح باب الأمل الوطني، ويدفع بالمزيد من السوريين إلى إلقاء السلاح، والانخراط في عملية البناء؛ ذلك أن ثلاثة أرباع التمرد الداخلي المسلح في سوريا، ناجم عن احتقانات سيكولوجية طائفية غذّتها الدعاية المسمومة؛ فالمطلوب، اليوم، معالجتها.. لا معاقبتها، والدفع بجميع السوريين إلى العودة إلى الذات الوطنية، وتجاوز الانشقاقات النفسية. تبرز الحاجة، هنا، إلى لغة مستحدثة مُحبة غير تقليدية، ووسائل إعلام محلية خاصة بالمحافظة، مفتوحة العقل والأفق.
حمص الآن في حاجة إلى تكرار تجربة «جهاد البناء»، المؤسسة المبدعة التابعة لحزب الله؛ التجربة ــــ وليس، بالضرورة، المؤسسة المعنية ــــ فهي باشرت إزالة الأنقاض والشروع في إعادة الإعمار في اليوم التالي لوقف النار في حرب 2006؛ وفي سوريا هناك امكانات الدولة الجبارة التي حين تنضاف إلى الإرادة السياسية، سيتضاعف الإنجاز.
في حالة حمص، تذكّر مشاهد الدمار بآلام الحرب والانشقاق، وتثير البغضاء، ولإزالة تلك المشاهد على الفور ضرورة نفسية وسياسية، تماماً مثل إصلاح البنى التحتية وإعادة الخدمات؛ على أن إعادة إعمار المباني ينبغي ألا تمسّ، من قريب أو بعيد، بحقوق الملكية، وبالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، للمواطنين والأسر من الأغلبية الشعبية.
من البدهي أن نلاحظ، هنا، بأن أبسط واجبات الدولة هو التعويض عن كل الأضرار التي لحقت بممتلكات الأفراد والمؤسسات، ومن دون أي تلاعب بالحقوق ــــ كما حدث، مثلاً، في تجربة إعمار وسط بيروت (السوليدير) ــــ هذه التجربة السوداء المريرة ينبغي ألا تدخل إلى حمص أبداً.