حمص | لا يختلف كثيراً الخراب الحالي حول جامع خالد بن الوليد في حي الخالدية المدمّر، وسط حمص القديمة، عن مشاهد الخراب حين سيطر الجيش السوري على الحيّ، خلال الصيف الفائت. أبرز ما زيّن الصورة، أمس، عودة الأهالي للوقوف على أطلال بيوتهم في أحياء جورة الشياح والخالدية والقرابيص.
أطفال يلعبون في حديقة جامع «سيدي خالد» كأن الحرب لم تمرّ من هناك، بعدما رزحت الحديقة تحت رصاص القنص سنتين كاملتين. معظم الشوارع والحارات أضحت أنقاضاً. لا خراب كخراب جورة الشياح. الحي غير صالح للسكن إطلاقاً. طبقات متتالية من الأسقف الهابطة بين مبنى وآخر. ولا يبدو أنّ الـ 6.5 مليارات ليرة التي خصّصها رئيس مجلس الوزراء وائل الحلقي للنهوض بمدينة حمص، خلال زيارته المدينة القديمة، أمس، كافية للتعويض على كل من فقد ذكرياته وممتلكاته. أفواج من العائلات العائدة تدافعت بفضول شديد لرؤية حيهم «بحلّته الجديدة». الكثير من الكتل الاسمنتية لم تعد سوى تلال من الركام. بعض الطرق بين كتلة سكنية وأُخرى مفتوحة بواسطة آليات الجيش والمحافظة، إذ إن التحرك وسط هذه المساحات من الخراب يثير في الناظر إحساساً بالعجز والخسارة.
لا خراب كخراب حيّ
جورة الشياح الذي لا يصلح للسكن إطلاقاً
يصعب على من بقي من الجنود في حمص القديمة وصف ما آل إليه الحي المنكوب بالانتصار، على الرغم من تقديم العديد من الشهداء مقابل كل خطوة تقدّم. في سوريا فقط، يتزاوج النصر والخراب في مشهد واحد يثير في النفس الحيرة والغرابة. إحدى النساء المرتديات عباءة متشحة بالسواد لا تتحمّل السؤال عن سبب عودتها، إذ إنها تجهش بالبكاء قائلة: «قُتل زوجي ودمّر بيتي». إحدى جاراتها تفيد بأن الزوج المتوفّى كان أحد مسلحي جورة الشياح المعروفين، وأنه «حوّل شقته مركزاً لقنص عناصر الجيش، فلم يبقَ للمرأة إلا البكاء على خسارة كل شيء».
يربط المستشفى الوطني الشهير أحياء الخالدية والقصور والقرابيص وجورة الشياح، بالإضافة إلى شارع الكورنيش الحيوي الذي يصل شمال المدينة بجنوبها. سيطر المسلحون على المستشفى بعد تقدمهم في حي القرابيص الواقع غرب مدينة حمص، حيث اقتحمت «كتيبة الفاروق» و«ذو النورين» المستشفى بعد قتل عناصر حمايته وممرضاته. إحدى النساء تقف قبالة المبنى تتأمله بحسرة، بعد عودة أهالي المباني المجاورة له. هُنا قضت قريبتها الممرضة، حين «اقتحم (الملازم المنشق) عبد الرزاق طلاس المشفى». وتضيف المرأة: «لم يسلّم عناصر الأمن أنفسهم واستشهدوا جميعاً، في حين تخفّت ثلاث ممرضات في إحدى حجرات المشفى، بينهم قريبتي». تبكي حين تتذكر تسجيل الفيديو الذي رآه أهل الحي لأحد رجال طلاس ينادي على المتخفين داخل المستشفى: «الجوية محاصرة. والمطاحن سقطت ما ضل حدا يآزركن. نحنا اخواتكن... سلّموا حالكن وعليكن الأمان»، إلا أن الأمر انتهى بمقتل الجميع، بمن فيهم النساء الثلاث. لا ركن في المستشفى لم يتعرض للقصف. فجوات في الجدران بدءاً من الطبقات الأرضية وصولاً إلى العُلوية منها، ما أحالها غربالاً. في حين لا يمكن دخول حجراته الداخلية بسبب كثافة الركام.
جامع دار السلام في القرابيص لاقى المصير نفسه، فقد انطلقت منه عمليات عسكرية ضد الجيش والقوى الأمنية. لم ينَل الجامع أي نصيب من اسمه، إذ تحول شاهداً قاسياً على وحشية الحرب.
تناقضات سنوات الحرب الثلاث يمكن اختصارها في المثلث الواصل حي الخالدية بجورة الشياح والقرابيص. مسلحون سوّيت أوضاعهم عادوا مع عائلاتهم لتفقد منازلهم بعد جولات من المعارك، انتهت باستسلامهم ورمي سلاحهم.
الجميع يشيحون عيونهم عند تعرضهم لأي سؤال تصعب الإجابة عنه. يقول أحد الرجال الذين سوّيت أوضاعهم أخيراً: «والله ما كان حرزان كل اللي صار. بس ما كنا منعرف هيك». في الحارات الأكثر قرباً إلى «الساعة الجديدة»، يمكن أن تلمح في حدائق الشقق الأرضية الكثير من الخضروات المزروعة، ما يفسّر قدرة المسلحين على مصارعة الجوع طوال سنتين من الحصار. يقول أحد الرجال العائدين: «أكثر الأحياء التي تم استثمار حدائق منازلها للزراعة هو الحميدية». ويسير في اتجاه الحي المجاور، مشيراً إلى أحد المنازل. أهل هذا المنزل يضعون الكمّامات، فيما يحاولون إخلاء المكان من الحجارة المتناثرة. «في المنزل استقر قياديون من جبهة النصرة. بعضهم من أبناء جورة الشياح، وآخرون أجانب»، يقول الرجل. في حديقة المنزل بعض المزروعات؛ أبرزها البندورة. ويضيف إن «التمركز القتالي الأكبر كان في جورة الشياح، باعتبارها خط تماس تتموضع عليه أهم قوات الجيش السوري وأبرعها». في حين بقي حي الحميدية الأكثر أماناً بالنسبة إلى المسلحين فترات طويلة، بحسب الرجل، وذلك «باعتباره يقع في عمق حمص القديمة، ومنازله محمية بأحجارها القديمة».