تلتزم إسرائيل الرسمية الصمت إزاء الانقلاب العسكري في السودان؛ إذ يغيب أيّ تصريح أو تعليق لمسؤولين في تل أبيب، وهو ما لا يُقدَّر أن يتغيّر قريباً. إلّا أن الواقع يقول إن ما بين سلطة الانقلاب السابقة وسلطة الانقلاب الحالية، تحوّلاً من الحسن إلى الأحسن من ناحية إسرائيل، وإن على الأخيرة الانتظار قبل أن تعلن تأييدها للانقلابيين من المؤسسة العسكرية، والذين كانت تحصر علاقتها مع السودان بهم، دون نظرائهم من المدنيين، في السلطة «المخلوطة» المنقلَب عليها. بالطبع، يتعذّر على إسرائيل أن تُغرّد منفردة بعيداً من الموقف الأميركي، أقلّه في العلن. لكنّ الصمت الرسمي في تل أبيب، الواضحة أهدافه، لا يلغي أن لدى الأخيرة خيارات تُميّزها عن الموقف الأميركي الذي ينطلق من محدّدات أوسع وأشمل من موقف إسرائيل. وبالنسبة إلى الكيان العبري، فإن موقفه قد يكون مبنيّاً على قراءة لمآلات الأوضاع في السودان، وتقدير بخطورة الانتقال السلمي، من سلطة عسكرية إلى سلطة مدنية، تكون بطبيعتها، وإن نسبياً، أكثر اهتماماً برأي الشارع السوداني، ما قد يلجم اندفاعتها نحو التطبيع، بالمستوى والاتجاه المطلوبَين منها. ولعلّ من الممكن الإحاطة بموقف تل أبيب غير المعلَن إلى الآن، عبر معاينة مقاربتها للسلطة السابقة في الخرطوم، والتي ركّزت فيها على فئة دون أخرى، والحديث هنا عن العسكر، وهو ما يثير أكثر من علامة استفهام حول انقلاب الإثنين الماضي. من جهة إسرائيل، فإن إحكام المؤسسة العسكرية قبضتها على مقاليد الحُكم في السودان، يخدم مصالحها أكثر من «السلطة المختلطة»، وبالتأكيد أكثر من سلطة مدنية كان من المقرّر أن تنتقل إليها السلطة في الأسابيع المقبلة. وللدلالة، كشف الإعلام العبري، في حزيران الماضي (موقع واللا)، عن «امتعاض» شركاء الحُكم الانقلابي السابق، من المدنيين، جرّاء حصر إسرائيل علاقاتها بالسودان، بالجيش والاستخبارات في الخرطوم، من دون أيّ لقاء أو تنسيق أو محادثة، في العلن أو الخفاء، مع المكوّن المدني في «مجلس السيادة» السوداني. ووفقاً للتقرير العبري، حثّت الإدارة الأميركية، حكومة إسرائيل، على البدء في التعامل مع القادة المدنيين في السودان، وعدم حصْر العلاقة مع الجيش السوداني، وهو ما وجد استجابة محدودة في تل أبيب. ووفق ما أوضحه مسؤولون إسرائيليون في حينه، لـ«واللا»، فإن خلفية المقاربة الإسرائيلية للسودان، وفي مركزها الابتعاد عن القادة المدنيين هناك، أن «العسكر في المجلس السيادي، وتحديداً رئيس المجلس عبد الفتاح البرهان، يعمل على الدفع قُدُماً بالتطبيع مع إسرائيل، في حين أن هناك تحفّظات قوية على التطبيع نفسه من الجانب المدني في المجلس».
أكّد دبلوماسي سوداني بارز للإذاعة الإسرائيلية أن مسار التطبيع مع تل أبيب سيستمرّ


على خلفية هذه المعطيات المسرّبة قبل أشهر، يتّضح أن لإسرائيل مصلحة في أن تتسلّم الحكمَ في الخرطوم، جهاتٌ عسكرية وأمنية كانت تل أبيب شخّصت أن من مصلحتها حصر علاقاتها بها دون المستوى المدني، الذي يشكّك الجانب الإسرائيلي في قدرته على توفير «بضاعة التطبيع» المطلوبة من السودان. وعلى رغم الصمت الرسمي في تل أبيب، إلّا أن التسريبات المتواصلة تكشف المزيد حول موقف إسرائيل من الانقلاب السوداني، الذي لا يُستبعد أن تكون لها يد فيه، إذ وفقاً لمصادر سياسية إسرائيلية (في حديث إلى صحيفة هآرتس أمس)، «(فإننا) لا نحبّذ التعليق حالياً على الانقلاب في السودان، وننتظر التطورات هناك لنبني على الشيء مقتضاه»، إلّا أن الأهمّ في حديث هذه المصادر هو الكشف عن أن إسرائيل أجرت لقاءات مكثّفة مع المسؤولين في السودان في الأسابيع الأخيرة، مع التشديد على أن «إسرائيل ليست ضالعة بأيّ شكل من الأشكال في ما يحدث هناك». والتشديد هنا لافت، خصوصاً أنه يترافق مع حديث مصادر مسؤولة أخرى في تل أبيب، إلى الصحيفة نفسها، عن أن «إسرائيل عملت في الآونة الأخيرة على تعزيز العلاقات مع السودان، الدولة التي ما زالت العلاقات معها في بداياتها نسبةً إلى الإنجازات المُحقَّقة في علاقات إسرائيل مع الإمارات والبحرين»، علماً أن «ما يعيق تطوّر العلاقات أن الوضع الداخلي في السودان جعل من الصعب على الخرطوم دفْع اتصالاتها مع تل أبيب قُدُماً، كما فعلت الدول الأخرى»، بحسب مصدر ثالث لـ«هآرتس».
وفي تصريح ذي دلالات، قال دبلوماسي سوداني بارز، في حديث مع الإذاعة الإسرائيلية أوّل من أمس، أي في أعقاب الانقلاب في الخرطوم، إن مسار التطبيع مع إسرائيل سيستمرّ، إذ إن «من بادروا بالانقلاب هم العسكريون المؤيدون للتطبيع: رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو». هل هذا يعني أن إسرائيل تفضّل الانقلابيين الجدد على الانقلابيين السابقين؟ الإجابة هي نعم كبيرة. وهل إسرائيل الصامتة الآن إزاء الانقلاب الجديد، كانت معنيّة بإسقاط معارضي التطبيع وغير الحاثّين عليه من السلطة السابقة، وحصر الحُكم بمؤيّديها من المؤسّسة العسكرية؟ الإجابة هي أيضاً نعم كبيرة. والإجابتان هنا مرتبطتان بتشخيص المصالح الإسرائيلية الكلّية إزاء السودان، لتبقى الأسئلة مفتوحة في شأن تقدير خطوات تل أبيب في المرحلة المقبلة.