أكاد أجزم ألّا أحد يعرف عمرها الحقيقي، هي تقول إنها خرجت من فلسطين في عمر الورد، وإن سألتها عن فلسطين فهي تسترسل لتشرح كيف كانت الطريق من بيتهم إلى أي مكان بأدّق التفاصيل لتثبت أنها حفظت قريتها عن ظهر قلب قبل أن تخرج منها. هي تقول إنها لجأت إلى لبنان من دون أوراقٍ ثبوتية، وأن دائرة شؤون اللاجئين ابتكرت لها تاريخ ميلادٍ على الورق. تقول أيضاً إنها تنقلت بين كثير من القرى في الجنوب قبل أن تسكن أخيراً تجمّع القاسمية، ذلك الذي أصبح وطنها الذي ترفض أن تخرج منه، وكأنها تأبى أن تخرج مرتين. هي تقول الكثير، حتى أصبحت أخيراً تستحضر الماضي البعيد أكثر من القريب، فتحكي لنا قصصاً عن بيروت أيام وجود القطار، وكيف أنها اشترت مرة تذكرة كي تمرّ به على طريق بشارة الخوري. هي ستّي أُم ناصر، امرأة عاصرت أسوأ مراحل التاريخ، من نكبة فلسطين مروراً بحرب لبنان بكل تفاصيلها، وصولاً إلى الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وحتى مرضها وشفائها حديثاً لتُمنح عمراً جديداً يواكب الآتي من هذا الزمن الأغبر.
أخاف ألّا تعود «ستي» إلى فلسطين، لم يعد بمقدوري أن أكذب على نفسي وأقول أنها ستعود وأنا مدركة تماماً أن هذا لن يحدث قريباً. وعلى الرغم من المرارة والخجل المفرطين اللذين أشعر بهما إلا أنني أعني ما أقول ربما لأوضح مرة في حياتي. ستي ـ كما نقول بالمحلية الفسطينية ـ التي أنهكتها السنوات الستة والستون لم تعد تحتمل الانتظار أكثر. حتى أنها صارت تحكي عن اللجوء أكثر من حديثها عن أيام البلاد، وكأنها استسلمت إلى واقعٍ يحتم عليها البقاء هنا، داخل تجمّعٍ يتقوض كل يوم أكثر فأكثر بسبب بناء حائطٍ (يشبه جدار الفصل العنصري) ما بين البيوت والبستان المحاذي لها، ويفرغ كل يومٍ أكثر فأكثر بعد رحيل معظم شبّان التجمّع إلى المهجر هروباً عبر البحر بقوارب الموت. ستي التي اقتنت أخيراً «تختاً»، أي سريراً رسمياً بعد النوم على الأرض لأكثر من ستة وستين عاماً، لا يمكنها العودة إلى فلسطين إلا في أحلامها. عندما تصنع من هذا «التخت» قارباً لها تركبه كما في النوم وحدها لتهرب فيه من الواقع. «تخت» لا تشتري فيه تذكرة كي تمر بطريقٍ لا يأخذها إلى فلسطين، فهي إن أرادت الخروج من القاسمية فللطريق إلى فلسطين، الوجهة الوحيدة التي تهمها.
ينتابني شعور سيئ يختلط بالأسى، أن ستي لن ترى فلسطين مرة اخرى الا في أحلامها. هي تستحضر حالياً حوادث واقعية، إلا أن هناك كثيراً في مخيلتها مما لم ولا تسرده.
لا بد أن هناك مزيداً في شرودها أخيراً، ولعلي مُخطئة في كل ما قلت، وأن ستي بعكس كل ما ذكرت تزور فلسطين كل يوم.