«من كام يوم» لفت نظري كلام لإحدى «وكالات الحكي» وما أكثرها، تتحدث عن «افتتاح» كورنيش لاهالي مخيم البارد. بصراحة؟ شعرت بين سطوره ما يوحي بأنه حتى «شم الهوا النضيف والنقي»، «هجنة»، عندما يكون الأنف فلسطينياً...«المهم الخبر بقول»: «اصبح لدى سكان مخيم نهر البارد متنفساً هو عبارة عن كورنيش يطل على البحر بعد اتمام اعمار حارة الدامون». «ومش عارف ليه فورا» انتقلت بي الذاكرة الى الخلف سريعاً ومن دون استئذان الى ما قبل قيام الثورة الفلسطينية وانطلاقها عام 1965، والحالة التي كان يعيشها اهلنا في المخيمات التي اعتُبرت مخيمات مغلقة يسري عليها قانون يشبه قانون الطوارئ إلى حد بعيد.

وقتها، لمن لا يعرف، ضاعفت السلطات اللبنانية القيود على تنقلات الفلسطينيين، وبلغت هذه السياسة الامنية أوجها عام 1959 حين خضعت المخيمات الفلسطينية في لبنان للأحكام العرفية. وامتدّ ذلك إلى عام 1969 وحتى توقيع اتفاق القاهرة بين لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية، وكان من جملة هذه الأحكام:
أ- ممنوع التجول في شوارع المخيمات وأزقتها لأكثر من شخصين معاً.
ب- ممنوع قراءة جريدة أو سماع أخبار في مكان عام.
ج- ممنوع السهر وبقاء الأضواء مشتعلة داخل الشوادر وغرف المخيم المسقوفة بألواح الزينكو لأكثر من الساعة العاشرة ليلاً.
د- ممنوع التنقل من مخيم إلى آخر إلاّ بإذن. كذلك التنقل من منطقة إلى أخرى لأي فلسطيني يحتاج إلى إذن مسبق.
وعُهد تطبيق هذه الإجراءات إلى مكتب أمني في كل مخيم، يستدعي كل من يشك بأنه «غريب» اي من مخيم آخر، قد يكون جاء لزيارة، وإذا لم يكن بحوزته تصريح بالزيارة يتم اعتقاله على الفور. كما يتعرّض، أيضاً، من استقبله للمساءلة والتحقيق.
هذه الإجراءات ألغيت بموجب اتفاق القاهرة. قبلها، كانت الفلسطينية لم تكن تتجرأ ان تغسل من دون ان يكون ابنها الى جانبها ليقوم بحثو التراب على الماء المتسرب الى الطريق خوفاً من مرور الدرك وتنظيم مخالفة بخمس ليرات وفرنك. وقتها كانت أجرة العامل ربع ليرة او اكثر بقليل.
المهم تذكرت هذا الماضي لأصل الى حادثة غريبة عجيبة جرت مع احد الفلسطينيين على احد الحواجز العسكرية عام 1982 بعد انسحاب قوات الثورة من بيروت اثر احتلال بيروت من قبل الجيش الصهيوني. يومها، وقفت عناصر الجيش اللبناني على أبواب المخيمات، وطلبت تسليم الأسلحة الخفيفة، أو ما تبقّى منها. استجاب الأهالي للسلطات، خصوصاً أنهم تلقوا تطمينات. وبعد أيام قليلة صدر حظر للتجوال في المخيمات، ليبدأ اقتحام البيوت واعتقال كل من تجاوز خمس عشرة سنة.
آلاف اعتُقلوا، والعشرات لم يعودوا بعد. كان بعض الفلسطينيين يتخفى ليصل إلى عمله، لكن الحواجز العسكرية المنتشرة كانت كفيلة بالقبض على من يحاول ذلك. كانت الشاحنات العسكرية تمتلئ يومياً بالشبان متجهة إلى السجون التي استُحدثت على عجل.
وفي حادثة شهيرة، أحد الفلسطينيين سأله عنصر عند حاجز عسكري عن بطاقته الشخصية، فأجاب أنه نسيها في بنطلون آخر، فما كان من العنصر الا ان استهجن قائلاً :»فلسطيني وعندك بنطلونين؟» وأودعه السجن!
كأنه من غير المسموح أن يحيى الفلسطيني حياة آدمية. هذا الوضع دفع حوالى 70 ألف فلسطينياً للهجرة عام 1983، على ما يقول شفيق الحوت في مذكراته.
لكن مع كل ذلك، تبقى للبنان محبة خاصة في قلوب ابناء المخيمات. كيف لا ونحن الذين عشنا على ارضه طوال هذه السنوات، ساهمنا في إعماره وبنائه بعد كل حرب، وما زال ترابه مجبولاً بعرق اهلنا الذين ما بخلوا يوماً في الحفاظ عليه. وما زلنا نكنّ المودة والمحبة لكل القوى الطيبة التي ما زالت حتى الآن تقف الى جانب قضيتنا في السراء والضراء، وما زالت تسعى بما تملك لاقرار حقوقنا المدنية والاجتماعية. لبنان الذي نحب كما احببنا فلسطين. لبنان الشعب الجميل وقواه الوطنية والتقدمية الحية والمخلصة.
كل هذا تذكرته حين قرأت الخبر. التوى فمي بابتسامة ساخرة قبل ان اتنبّه. قلت في نفسي: وكأنه ممنوع على الفلسطيني بنظر البعض «مش بس يكون عندو بنطلونين، ومستهجن حتى انه يشم هوا او يكون عندو كورنيش. واللي بيسمع بالكورنيش بفكر انو كورنيش زي اللي الله عاطيهن! يشرد بخياله الى كورنيش الرملة البيضا مثلا او الروشة او صيدا». والحقيقة ان ما اطلق عليه اسم كورنيش مجازاً ما هو إلا فضاء مفتوح على شيء يشبه شط البحر، «مليان ردم» واكوام البحص ناتجة من ازالة الركام في الابنية المرممة. والتي قام بعض اهالي الحي بتنظيفها ووضع «كم كرسي وكم طاوله» عسى ولعل يتنعمون بهواء عليل مع رشفة قهوة او اركيلة تنسيهم نكبتهم المستمرة ويحلمون ربٌما بغد افضل لهم ولابنائهم.
ايه.. وكل كورنيش وانتم سالمين.