يعمل وليّ العهد الكويتي مشعل الأحمد الصباح جاهداً، على ترتيب البيت الداخلي للبلاد، التي أعادها تراجع صحّة الأمير نواف الأحمد إلى الزمن الانتقالي، بعد عام ونيّف على انتقال الإمارة إلى الأخير بوفاة الأمير صباح الأحمد. ترتيباتٌ يبدو أن ثمنها سيكون الابتعاد عن السياسة المتوازنة التي اعتمدها صباح الأحمد، وتمتين العلاقات مع السعودية التي يُفترض أن تكون هي الضامن لعملية الانتقال تلك، وهو ما جلّاه الحوار الوطني، الذي حيّد، مرحليّاً على الأقلّ، مشكلة مزمنة مع المعارضة القبَلية المرتبطة بشكل ما بالمملكة، فضلاً عن الإجراءات المُتّخذة ضدّ لبنان، والتي تجاوزت فيها الكويت السعوديين أنفسهم
عندما تقترب الكويت كثيراً من السعودية، تكون ثمّة مبررات داخلية كويتية لذلك، من النوع الذي يضع البلد على مفترق طرق. اليوم، اضطرّت الحال الصحّية لنواف الأحمد، والتي تراجعت في الآونة الأخيرة، أمير البلاد إلى نقل بعض صلاحياته، بما فيها إجراء المشاورات المعهودة لتشكيل الحكومة، إلى وليّ عهده مشعل الأحمد. على أنه منذ تولّي نواف الحُكم قبل عام وشهرين، خلَفاً للأمير السابق صباح الأحمد، كان مشعل هو المباشِر الفعلي للسلطة معظم الوقت، نظراً إلى تكرار الرحلات العلاجية للأمير إلى الولايات المتحدة وألمانيا، فضلاً عن أن وليّ العهد هو واحد من «رباعيّ الحُكم» القائم منذ أيام صباح الأحمد، والذي كان يضمّ إليهما نواف ورئيس الوزراء الأسبق ناصر المحمد الصباح، الذي يُعتبر على نطاق واسع، وليّ العهد المقبل. ومن هنا، قد يكون تعيين وليّ العهد المقبل هو الحلقة الأهمّ التي تبحث القيادة عن إنجازها بشكل هادئ؛ فناصر المحمد قد يستفزّ باعتداله السعودية التي دائماً ما تطلب من الكويت مساندتها كجزء من ردّ الجميل لها على استضافة أفراد الأسرة الحاكمة أثناء اجتياح صدام حسين للبلاد عام 1990، ومن ثمّ استضافة الجيوش التي طردت الغازي العراقي من الإمارة. كذلك، يُعتبر ناصر المحمد شخصية غير شعبية لدى المعارضة الكويتية التي نجحت في إسقاطه في 28 تشرين الثاني 2011، في ذروة قوّتها المعزَّزة بـ«الربيع العربي»، بعد أقلّ من أسبوعين على حادثة اقتحام مجلس الأمة التي حُكم فيها بالسجن عدد من نواب المعارضة وناشطيها، وعلى رأسهم النائب السابق مسلم البراك، علماً أن الأخير فرّ مع عدد من رفاقه إلى السعودية أوّلاً، ثمّ عادوا إلى الكويت، ليفرّوا من جديد إلى تركيا في عام 2018، حيث مكثوا إلى أن عادوا بالعفو الأميري الأخير.
ما يحصل اليوم في الكويت يمثّل خروجاً على السياسة المتوازنة التي اتّبعها صباح الأحمد


بناءً على ما تَقدّم، يبدو أن سلسلة القرارات الداخلية والخارجية الأخيرة تأتي في سياق التقرّب من السعودية، ومن ذلك الإجراءات الكويتية بحقّ لبنان والتي تجاوزت الإجراءات السعودية نفسها، والسماح بعودة عُتاة المعارضة الكويتية المهجّرين إلى تركيا - وهؤلاء أصدقاء للرياض، على رغم أن بعضهم من «الإخوان المسلمين» أو السلف -، في إطار الحوار الوطني الذي يَعتبر مراقبون أن ترتيب بيت الحُكم في الكويت أملاه على القيادة السياسية، وخاصة أن المعارضة أوصلت الأوضاع إلى ذروة جديدة من التأزيم، من خلال 11 استجواباً في مجلس الأمّة تقدّمت بها ضدّ رئيس الوزراء صباح الخالد الصباح، وسقطت باستقالة الحكومة، تمهيداً لعودة صباح الخالد «محصَّناً» هذه المرّة بالاتفاق مع المعارضة، كما يَشتبه قادة معارضون مِمَّن رفضوا العودة إلى البلاد في إطار العفو، وأبرزهم النائب السابق فيصل المسلّم. على أن ما يحصل اليوم في الكويت يُعدّ خروجاً على السياسة المتوازنة التي اتّبعها صُباح الأحمد، الذي حكم أربعة عشر عاماً، استفاد فيها من خبرته الدبلوماسية الطويلة كوزير للخارجية، واستطاع قيادة البلاد خلال الفترة الأكثر اضطراباً في تاريخ الخليج والعالم العربي.
كان ممكناً وفق سياسة صباح، ألّا ترسل الكويت قوّات إلى البحرين للانضمام إلى السعودية في سحق الحراك الشعبي هناك، على رغم أن المعارضة الكويتية برموزها المعروفين من أمثال البراك وجمعان الحربش والمسلّم طالبت يومها بإرسال قوّة كويتية لمساندة الرياض. كما كان ممكناً أن تعلن الكويت مشاركتها في الحرب السعودية على اليمن، من دون أن تشارك فعلياً فيها، ومن ثمّ أن تستضيف أوّل مفاوضات بين السعودية و«أنصار الله» في بدايات تلك الحرب. كذلك، كان ممكناً أن تقيم علاقة جيّدة مع إيران بقدر ما يسمح به ظرفها الخليجي، وأن لا تشارك - رسمياً - في أيّ تمويل للجماعات المسلّحة في سوريا، على رغم النشاطات الأهلية التي قامت بها المعارضة وبعض نوابها من أمثال وليد الطبطائي، وبعض متطرّفيها من أمثال شافي العجمي وحجاج العجمي، لجمع أموال وإرسال مقاتلين للقتال مع «داعش» و«القاعدة» في سوريا. وأخيراً، كان ممكناً رفض المشاركة في مقاطعة قطر، وتولّي دور الوساطة في الأزمة مع ميل إلى الموقف القطري.
هذه السياسة استندت إلى تحالف داخلي غير معلَن ضمّ أسرة الصباح، والحضَر السنّة والشيعة، وبعض قوى القبائل. وهذه المعادلة هي بالضبط ما تريد القيادة السياسية الإيحاء للسعودية بأنه يتغيّر، أقلّه في الجانب المتعلّق بتأثيره على السياسة الخارجية. إلّا أن القيادة السياسية لا تستطيع نسف تلك القاعدة تماماً، وفي هذا السياق بالذات، جاء العفو عن 25 محكوماً في ما عُرف بـ«خلية العبدلي»، بالتزامن مع العفو عن مهجّري تركيا. لكنّ الاقتراب من السعودية يعني أن القاعدة المذكورة ما عادت قابلة للاستمرار كما هي، وأن ترتيبات انتقال الحُكم، إذا ما فقد الأمير نواف القدرة على ممارسته، ستحتاج إلى قوّة ضامنة، مثل السعودية، في ظلّ تخفيف الولايات المتحدة رعايتها المباشرة للعمليات الانتقالية في الخليج، انسجاماً مع تخفيف الوجود العسكري الأميركي هناك. وإذا كان انتقال الحُكم سيتمّ وفق الترتيب المتوقّع، أي أن يصبح مشعل أميراً وناصر المحمد ولياً للعهد، فإن موافقة السعودية تحديداً على ناصر المحمد قد تكون ضرورية. وباعتباره صديقاً للمملكة، يتولّى مشعل الاتصالات مع الرياض، وهو بادر إلى الاتصال بالملك سلمان قبل أسبوع.
يعرف وليّ العهد الكويتي، بخبرة رجل الأمن الطويلة التي يتمتّع بها باعتباره (سابقاً) رئيساً للمباحث العامة، ثمّ لجهاز أمن الدولة، أنه لا يمكن تطويق تحرّكات المعارضة الكويتية الشرسة في الشارع، بالوسائل الأمنية وحدها، بما في ذلك المحاكمات والتهجير. وهذا واحد من الأثمان التي يسدّدها سلفاً للرياض. ولولا العفو، لكانت الكويت على موعد مع تصعيد لتحرّكات المعارضة الممسكة بالشارع القبلي، وهو ما أظهره اتحاد قبيلتَي العوازم والمطران لانتخاب عبيد الوسمي نائباً بأعلى نسبة من الأصوات في تاريخ البلد، فضلاً عن الاستجوابات المكثّفة لصباح الخالد، الذي ما كان من الممكن تسميته رئيساً للوزراء من جديد، كما حصل أمس بالذات.