باريس | الوضع الاقتصادي الحرج هو ما يجمع اليوم بين تونس والمغرب، إذ تشهد الرباط عزلة إقليمية خانقة، بينما تمر تونس بأزمة اقتصادية حادة. سابقاً جمعتهما المنافسة، إذ يعتبر المغرب منافساً هاماً لتونس في مجالات اقتصادية عدة، أهمّها السّياحة والقدرة على جلب الاستثمار الخارجي والشّراكة مع الاتّحاد الأوروبي.
وتهدف الرباط إلى تغيير طبيعة العلاقة الاقتصادية بين البلدين وإعادة بنائها على «نظرة جديدة تختلف عن سابقاتها بعيداً من منطق التنافسيّة الكلاسيكيّة»، وفق ما صرّح به وزير الشؤون الخارجيّة المغربي صلاح الدّين مغوار «لوكالة تونس أفريقيا للأنباء». لذلك لبى الملك المغربي محمد السادس دعوة رئيس تونس المؤقت منصف المرزوقي لزيارة تونس، وهي الأولى من نوعها منذ سقوط زين العابدين بن علي. زيارة بدأت أواخر الأسبوع الماضي واستمرت 3 أيام، ووُقِّع خلالها ما لا يقلّ عن 23 اتّفاقيّة ومذكّرة تفاهم وبرامج تنفيذيّة للتّعاون بين البلدين في مجالات عديدة، وخصوصاً السياحة والاقتصاد والطاقة والصحة و الأمن.
ومن جانبه، أكد الملك المغربي في خطاب ألقاه في المجلس التأسيسي (البرلمان التونسي) أهميّة العلاقات الثنائيّة في بناء اتحاد المغرب العربي، مشدداً على عجز دولة بمفردها عن مواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية إقليمياً، في إشارة واضحة إلى الجزائر.

المغرب في عزلة إقليميّة

شرقاً، ما زالت الحدود المغربيّة - الجزائريّة مغلقة منذ سنة 1994 ولا شيء ينبئ بإمكانيّة تجاوز الأزمة بين البلدين. وجنوباً، لا وجود لسفير مغربي في نواكشوط، وما زال الرئيس الموريتاني محمّد ولد عبد العزيز يرفض تعيين سفير لدولته في الرّباط. أمّا شمالاً، فالخلافات التاريخية والجغرافية العالقة بين المغرب وإسبانيا تهدّد الهدوء القائم بين البلدين بالتّلاشي في أيّة لحظة، إضافة إلى تعطّل مسار اتحاد المغرب العربي بسبب الخلافات بين المغرب والجزائر على خلفية موضوع الصّحراء الغربيّة واستحالة تفعيله الآن بسبب ما يحدث في ليبيا. وكان المغرب قد انسحب من الاتحاد الأفريقي بعد قبول الاتحاد عضويّة البوليساريو. لذلك فالعاهل المغربي عدّد، أخيراً، من جولاته الديبلوماسيّة في الغرب الأفريقي بزيارته لمالي والكوت ديفوار وغينيا والغابون، حيث وقّع اتفاقيات اقتصاديّة شبيهة بتلك التّي وقّعها في تونس، بالإضافة إلى اتفاقيات عسكريّة.
من الواضح إذاً، أن الملك المغربي يحاول استغلال فرصة مرض الرّئيس الجزائري محمد بوتفليقة لسحب البساط من تحت قدميه بإقامة علاقات اقتصاديّة وطيدة مع دول تربطها به صداقة قويّة. وقد كانت المجلة الاقتصادية البريطانية «ذي إكونوميست» قد كتبت أن هذه الجولة قد حظيت بدعم فرنسي وأميركي لمواجهة النفوذ الجزائري الذي يلقى دعماً صينياً وإيرانياً.
لم تكن هذه الزيارة مرتقبة، فدائرة الإعلام والتواصل لرئاسة الجمهوريّة التونسية لم تعلن عنها إلا قبل بدئها بثلاثة أيام. وهي، وإن غلب عليها الطابع الاقتصادي والتجاري، غير معزولة عمّا تشهده المنطقة من تطوّرات. إذ ينظر إليها محللون على أنها تقارب تونسي – مغربي ردّاً على التّقارب الجزائري – المصري.
وفسرت جريدة الحرية «لا ليبرتي» في عددها الصادر يوم 25 من الشهر الفائت «زيارة العاهل المغربي المفاجئة لتونس بأنها ذات علاقة بالمحور العسكري السّياسي بين مصر والجزائر».
وذهبت الصحف الجزائرية إلى أنّ اللجنة المشتركة الجزائرية – المصريّة المشكّلة حديثاً، والتّي ستسمح للقوتين العسكريتين بمواجهة خطر الإرهاب المتصاعد مع تفكّك الدولة الليبية، قد دفعت محمد السادس إلى الهرولة إلى تونس. وتضيف أنّ زيارات ملك المغرب لتونس ومالي ليست إلاّ تشويشاً على مبادرات الجزائر لحلّ مشاكل المنطقة، دون أن تتهم هذه التحليلات المغرب صراحة بتنفيذ أجندات أجنبيّة مدعومة من أطراف أجنبيّة فرنسيّة وأميركيّة وقطريّة.
ويرى محلّلون جزائريون أنّ هذه الزيارة تُعَدّ رسالة مفادها انفتاح المغرب على ثورات «الرّبيع العربي» وقبوله بالإسلاميّين في الحكم. فيما يذهب آخرون من تونس إلى أن الحكومة التونسية ترغب في أن يؤدي ملك المغرب دور الوساطة بين تونس والسّعوديّة التّي لم تغفر لتونس اصطفافها في المحور القطري وتواصل رفضها مساعدتها اقتصاديّاً.
إن الوضع الاقتصادي الحرج جداً، الذي يمر به الاقتصاد التّونسي إلى درجة تعجز معها الدّولة عن سداد أجور الموظفين وتجبرها على الاقتراض لدفعها، تجعل من حاجة تونس إلى الدّعم والمساعدة حاجة آنيّة عاجلة. لذلك فهي لا تحتاج الآن إلى اتفاقيّات اقتصاديّة مستقبليّة بقدر ما تحتاج إلى سيولة تواجه بها الأزمة. ومن سخرية الأقدار أن تتزامن زيارة ملك المغرب لتونس بتصديق المجلس التّأسيسي على دفعة أولى بقيمة 100 مليون دولار من قرض جزائري لتونس. وقد كان رئيس حكومة تونس المهدي جمعة، بُعيد تولّيه منصبه، قد قام بجولة خليجيّة عاد منها بخُفي حنين، وزيارة فرنسيّة نال فيها وعداً بإقامة «مؤتمر أصدقاء الاستثمار في تونس»، وأخرى أميركيّة حصل فيها على تأكيد قرض ائتماني بقيمة نصف مليار دولار.
وكانت الجزائر آخر محطّات رحلات جمعة، إلاّ أنّ الدّعم الجزائري كان أقلّ من آمال الحكومة التّونسيّة، فهل كانت دعوة تونس للعاهل المغربي بإقامة زيارة دولة مناورةً من قرطاج لحثّ الجزائر على بذل مزيد من الجهد لكسب صداقة تونس؟

من الأزمة إلى الصّدام

خلال خطابه أمام المجلس التّأسيسي، ركّز الملك المغربي طويلاً على الأهميّة الاستراتيجيّة للاتّحاد المغاربي، ما يبعث على الاعتقاد أنّ الموضوع كان محور محادثاته السّريّة مع الرّئيس التّونسي المؤقت. إلا أنّ فحوى خطابه، الذّي كان موجّهاً في جزء كبير منه بطريقة تارة ضمنيّة وأخرى صريحة إلى الجزائر، يُثبت ألّا اتّفاق في الأفق لتسوية وضعيّة الاتحاد وبعثه من جديد إلى الحياة. فإضافة إلى ما تشهده ليبيا من أحداث سبّبت تأجيل اجتماع وزراء خارجيّة المغرب العربي، تشتدّ حدّة الأزمة وارتفاع النّبرة بين الجزائر والمغرب. إذ لم يعد الأمر يتعلّق فقط بموضوع الصّحراء الغربيّة، بل إنّ كلا البلدين يتموقع في محور من العلاقات الدّوليّة معادٍ للآخر ومتناقض معه.
لذلك، إنّ البحث عن صيغة توافقيّة تقرّب وجهات النّظر حول التّعامل المغاربي المشترك بخصوص القضايا الحارقة مثل القضيّة الليبيّة ومخاطر الإرهاب وحول الدّور المستقبلي للاتّحاد المغاربي كان مهمّة مستحيلة. ومن المرجّح أن تغيّب الرّئيس التّونسي المؤقّت عن الكلمة التي ألقاها العاهل المغربي بالمجلس التّأسيسي، والذي نفت الرّباط رسميّاً في بيان لها أن يكون بسبب خلاف بين الرّجلين، يعود إلى عدم تحقيق الأبعاد المنتظرة من هذه الزّيارة.