الخرطوم | «هكذا هي السياسة؛ إنها شَقّ الطريق بين الجثث». تكاد هذه العبارة الواردة في رواية «حفلة التيس» للكاتب البيروفي، ماريو بارغاس يوسا، تنطبق على رئيس الوزراء السوداني، عبدالله حمدوك. فمنذ أن نشرت وكالة «رويترز» خبراً مسرّباً عن دوائر ضيّقة مُقرّبة منه، في شأن نيّته الاستقالة من منصبه خلال ساعات، بدا وكأنّ نهاية عهد الرجل قد دنت، وأن حقبة جديدة تُوشك أن تبدأ، عنوانها الإطاحة بكلّ أركان النظام القديم، والسيطرة التامّة للجيش وداعميه على البلاد. وجاء هذا التسريب بعد نحو 72 ساعة فقط من تظاهرات شعبية عارمة نجحت في الوصول إلى القصر الرئاسي في الخرطوم، ومحاصرته لساعات، في تَطوّر هامّ، أثبت من خلاله الشارع المعارض أنه لا يزال قادراً على مقاومة الضغوط التي يتعّرض لها، للتسليم بالاتفاق السياسي المبرَم الشهر الماضي بين حمدوك وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان.
استقال، لم يستقل!
لم يتقدّم حمدوك، الذي أعيد إلى منصبه في 21 تشرين الثاني، باستقالته حتى اللحظة، كما لم يؤكّد أو ينفِ التسريب الأخير، بل ترك الباب مفتوحاً للتكهّنات والاحتمالات. وفي هذا السياق، أكد الصحافي والمحلّل السياسي المُقرّب من حمدوك، شوقي عبد العظيم، أن رئيس الوزراء «عازم بالفعل على الدفْع باستقالته، بيد أنه أرجأها إلى ما بعد 25 كانون الأول»، موعد التظاهرة الجديدة التي دعت إليها «لجان المقاومة» و«تجمّع المهنيين السودانيين». وقال عبد العظيم، في تصريحات صحافية، إن «رئيس الوزراء سيدفع باستقالته بالفعل، في حال لم تستجب القوى السياسية المدنية لدعوته إلى التوافق حول ميثاق وطني يقوم على الاتفاق السياسي الذي وقّعه مع البرهان». ويبدو تلويح حمدوك باستقالته وكأنّه تحصيل حاصل؛ إذ تَسبّبت عودته إلى رئاسة الوزراء بإضافة تعقيدات جديدة إلى المشهد السياسي، جعلت استمراره في منصبه شبه مستحيل، مثلما بحْثه عن توافق سياسي و«ميثاق وطني» مع «قوى الحرية والتغيير» (بشِقّها الرافض للانقلاب)، حاضنته السياسية التي تخلّى عنها وذهب إلى اتفاق منفرد مع الانقلابيين.

جدليّة المُنبت
«كالمُنبَتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى»، أصبح عبدالله حمدوك. الرجل، وبعد شهر على الاتفاق السياسي، فشل حتى الآن في تشكيل حكومة كفاءات مستقلّة (تكنوقراط)؛ نتيجة تمسّك الحركات المتمرّدة السابقة، المُوقّعة على «اتفاقية جوبا للسلام»، ببقاء وزرائها الخمسة في الحكومة الانتقالية في مناصبهم، الأمر الذي يتناقض مع اتفاق البرهان - حمدوك، في ما يتعلّق بتشكيل حكومة تكنوقراط لا علاقة لها بالأحزاب السياسية، التي ينبغي أن تتفرّغ لترتيب شؤونها الداخلية وعقْد مؤتمراتها العامة، استعداداً للانتخابات المزمع إجراؤها قبل تموز 2023.
بعد شهر على الاتفاق السياسي، فشل حمدوك حتى الآن في تشكيل حكومة كفاءات مستقلّة


وفي هذا الإطار، يعتقد المحلّل السياسي، حامد نورين، أن رئيس الوزراء «وضَع نفسه والشعب السوداني في مأزق حقيقي»؛ إذ إن «انسحابه سيجعل الخرطوم رهينة للجيش وميليشيات الدعم السريع والحركات المسلّحة المتمرّدة السابقة، وسيفتح المجال السياسي لعودة منسوبي النظام السابق من فلول الإخوان المسلمين، الذين يدعمون الانقلاب بشدّة»، «بالتالي، فإن المواجهة بين المدنيين العزّل والمسلّحين الانقلابيين، ستَبلغ أقصى ما يمكن من الإيغال في الدم والموت، خصوصاً مع إصرار الثوّار والثائرات، ومعظمهم من الشباب ما بين 16 و25 سنة، على تحقيق الدولة المدنية الديموقراطية، وإعادة العسكر إلى ثُكناتهم، ومعاقبة منسوبي النظام السابق، وعدم السماح لهم بالعودة إلى العمل السياسي قبل 10 سنوات؛ فترة حظرهم عن ممارسة أيّ نشاط سياسي». ويَخلص نورين، في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أنه مع استمرار حراك الشارع المعارض، فإن «أيّ حكومة يشكّلها حمدوك لن تتمكّن من العمل».

«لو»... مَبنيّة على الشيطان
لو تمكّن حمدوك من انتزاع «ميثاق شرف وطني» من قائدَي الجيش و«الدعم السريع»، إضافة إلى «لوردات الحرب» المؤيّدين لهما، يقرّون من خلاله بعدم رغبتهم في الحُكم عقب انتهاء المرحلة الانتقالية، ويؤكدون شروعهم في دمْج كلّ الميليشيات والحركات المسلّحة في الجيش، وإعادة الموارد إلى وزارة المالية، ومنْح الأخيرة الحقّ الحصري في الولاية على المال العام، وإعادة «لجنة تفكيك النظام السابق وإزالة التمكين» إلى عملها على أسس جديدة وبوجوه جديدة، ثمّ خرج بعد ذلك إلى الشارع والقوى السياسية المناوئة للانقلاب، لطلب تفويضه على هذا الأساس، لَربّما وجد من يدعمه، ولَنجح في تشكيل حكومة رشيقة لتنفيذ الأهداف الأربعة التي وعد بالعمل على تحقيقها، وهي: حقْن الدم السوداني، وحماية سيادة البلاد، وإكمال عملية السلام والتحوّل الديموقراطي المدني، وتحسين الأوضاع الاقتصادية.
دائماً ما يأتي حمدوك متأخّراً، لكن يبدو أن إمكانية تقويم خطواته باتت هذه المرّة في «خبر كان». بالتالي، فلا خيار أمامه إلّا الاستقالة، أو المُضيّ مع الانقلابيين إلى آخر مدى، حيث لن يجد الوقت لقراءة المزيد من رواية «حفلة التيس»: «في تلك اللحظة، مِثل ضربة هراوة على الرأس، فاجأه الشكّ. اليقين. لقد حدث ذلك. ومن دون أن يعير اهتماماً لعبارات المديح للعهد، خفّض رأسه مواراةً، وكأنّه يريد التركيز على فكرة، ودقّق بصره، وتفحّص بجزع، تراخت عظامه، هزّته عاصفة غضب، فالملايين يهتفون ضدّه»، ولا يجد أحداً بينهم يقول له «شكراً حمدوك»، تلك العبارة الأثيرة لديه... يشعر بالعجز، وكأنّ جسده مشلول.