بدأ المبعوث الأميركي الجديد إلى القرن الأفريقي، ديفيد ساترفيلد، في الـ17 من كانون الثاني الجاري، جولة شملت الرياض والخرطوم وأديس أبابا، توازياً مع تدشين «رُباعية» جديدة لمتابعة الأوضاع في السودان، تضمّ، إلى جانب الولايات المتحدة، كلّاً من السعودية والإمارات والمملكة المتحدة، وهو ما يمثّل نقطة تحوّل في الحالة السودانية. وينبئ تكثيف الرياض وأبو ظبي، خصوصاً، مساعيهما لإحكام السيطرة على مسار المرحلة الانتقالية في هذا البلد، بسعْيهما لضمان استمرار لعبه دوره التقليدي في خدمة مصالحهما، سواءً كموطن للاستثمارات الرخيصة أو كمصدر لقوات (نظامية أو شبه نظامية) لدعم عملياتهما في اليمن، خصوصاً في ضوء التصعيد الأخير الذي بلغ ذروته بضرْب العمْق الإماراتي، ما يشي، بدوره، بأجندة مشتركة لهما هناك، تحْظى بدعم متزايد من أطراف إقليمية غير عربية فاعلة في الملفّ الأمني السوداني. هكذا، التقت الديبلوماسية السعودية والإماراتية مع الجهود الأميركية والبريطانية على خطّ السودان، وفق ما أظهره البيان المشترك الصادر عن الأطراف الأربعة (8 كانون الثاني)، والذي يدعم دعوة الأمم المتحدة إلى عقْد محادثات سودانية حول «الديموقراطية والانتقال». وجدّدت «الرُباعية»، في اجتماع لممثّليها في الرياض (18 كانون الثاني)، التزامها بمواصلة جهودها المشتركة «لتحقيق الاستقرار الدائم في السودان، ودعم أجندة الإصلاح»، وهي جهودٌ تقوم إلى الآن على محاولة توليف المتناقضات، بهدف التوصّل إلى تسوية بين المكوّنَين المدني والعسكري، الذي يتمّ الضغط عليه بعصا حجْب المساعدات. وممّا يعزّز هذا التوجُّه بالنسبة إلى الرياض وأبو ظبي هو أن بقاء انقلاب قائد الجيش، عبد الفتاح الرهان، بصورته الحالية، لن يعود عليهما إلّا بمكاسب محدودة، على رغم ما تأملانه من استجابة العسكر لمطلبهما توفير موارد إضافية لصالح العمل على الساحة اليمنية، وهو ما يمكن ملاحظته في المكالمة التي جمعت البرهان بوليّ عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، حيث أكّد الأول «وقوف السودان إلى جانب الإمارات ضدّ كلّ مَن يستهدف أمنها واستقرارها».
في المقابل، تبدو القاهرة أكثر حزماً في التمسّك بالحُكم العسكري، الأمر الذي يمكن إرجاعه إلى اعتبارات العُمق الاستراتيجي التقليدية، إلى جانب المخاوف المصرية من اللااستقرار في السودان، أو التراجع عن المستوى غير المسبوق في التنسيق المصري - السوداني في الملفّات السياسية والأمنية كافة. ومن هنا، يُفهَم تأكيد الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، منتصف كانون الثاني الجاري، أن السودان يمثل بالنسبة إلى بلاده أمناً قومياً في المقام الأول، وليس ملفّاً يتم توظيفه سواءً بشكل ثنائي أم عبر التوافق مع أطراف دولية، متبنّياً رؤية «مجلس السيادة» بالكامل للحلّ في هذا البلد. لكن مصر تُواجه، في ذلك، تحدّيات غير سهلة، لا سيّما في ظلّ الهجمة الديبلوماسية الخليجية على السودان، والتي يمكن أن تؤثّر على مصالحها الاستراتيجية في حوض النيل والقرن الأفريقي، وهو ما قد تكون بوادره بدأت بالظهور مع زيارة نائب رئيس «مجلس السيادة»، محمد حمدان دقلو، لأديس أبابا (22 كانون الثاني)، في أعقاب تصريحات مهمّة لرئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، بخصوص «سدّ النهضة»، رجّح مراقبون أن تكون مقدّمة لاستئناف وساطة الاتحاد الأفريقي في هذا الملفّ، على رغم ارتباط محادثات دقلو أيضاً بالخيارات السودانية المحتملة لدعم الجهود العسكرية الخليجية في اليمن، والتي تظلّ قوات «الدعم السريع» الأنسب لرفدها، علماً أن أعداداً كبيرة من تلك القوات نَشرها «حميدتي» قبل شهور على امتداد حدود البلاد مع إثيوبيا وإريتريا، في سياق عملية دمج القوات شبه النظامية بمؤسّسات الدولة العسكرية.
وأيّاً يكن، ستتوقّف حظوظ القاهرة (الداعم الأوّل لمجلس السيادة) في الثبات في مواجهة المتغيّرات التي تضرب الإقليم، والدفاع عن علاقاتها الاستثنائية مع السودان وما يرتبط بها من مصالح استراتيجية متبادلة، على قدرة «مجلس السيادة» على الوصول إلى خريطة طريق انتقالية حقيقية قارّة، بعيداً من سياسات الاستجابات المرحلية لمطالب القوى الخارجية لتفادي ضغوطها أو لجنْي مكاسب آنية منها، أسوةً بما فعله نظام عمر البشير. أمّا القوى الوطنية في هذا البلد، فسيكون عليها تحقيق قدر أكبر من التوافق، وعدم الانجرار وراء قوى إقليمية ودولية لا تدعم سياساتُها جوهرياً - في نهاية المطاف - عملية إصلاح سياسي ديموقراطي.