مفاجئ وصادم. لعلهما التوصيفان الأكثر دقة للهجوم العاصف الذي شنه تنظيم «داعش» داخل العراق وأدى إلى سقوط محافظة نينوى بكاملها تحت سيطرته وأطراف من صلاح الدين وملامسة قواته بغداد، وذلك بعد أيام من هجوم لم يكن أقل عصفاً وصدماً، لكنه تهاوى على عتبات مرقد الإمامين العسكريين في سامراء، بعدما تدخلت كل القوى المعنية لتجنيب بلاد الرافدين مصيراً مشابهاً لما جرى في 2006. وحقيقة أنه يحصل في بلد عجزت القوى الحاكمة فيه منذ أكثر من عقد من الزمن عن بناء ولو حتى خيال دولة، لا تغير من هول الهجوم شيئاً.
في خلال «غزوة سامراء»، كان التقدير السائد بأن الدولة الإسلامية في العراق والشام تستهدف تدمير المرقد في محاولة لجر البلاد إلى أتون حرب مذهبية، تبدو الأكثر استفادة منها. لم يظهر حينها حجم العملية الفعلية التي قرر «داعش» تنفيذها إلا بعدما سقط مطار الموصل، واستسلمت المدينة للتكفيريين بعدها بساعات.
عديدة هي الأسئلة التي خرجت من كل حدب وصوب تحاول استبيان ما حصل. كيف تمكن «داعش» من تحقيق هذا «النصر»؟ أين كان الجيش وقوات الأمن العراقية؟ ما هو حجم التواطؤ؟ وغيرها كثر من الأسئلة لعل الأهم بينها ثلاثة: من اتخذ القرار بهذه العملية؟ وبأي هدف؟ ولماذا في هذا التوقيت؟
نظريات كثيرة يجري تداولها في الأروقة المعنية، الأسهل بينها معزوفة «الهجرة الجماعية» من سوريا، والمؤامرة الإقليمية التي تقودها «السعودية وقطر وتركيا» من أجل الثأر من النصر الانتخابي الذي حققه نوري المالكي والذي جعله الحاكم الأوحد لبلاد الرافدين.
لا أحد يمتلك معطيات تأكيد هذه الرواية أو نفيها، وإن كان العارفون يستبعدون تلك الهجرة المزعومة في ظل تقدم ميداني يحققه «داعش» في الجبهة السورية، ويهزأون في الوقت نفسه من الادعاء بقدرة الدول الثلاث على التحكم بـهذا التنظيم، وإن تعاونت معه في لحظات مفصلية سابقة بفعل تقاطع المصالح الظرفية.
التحليل الأكثر منطقية ينحو باتجاهين، يلتقيان في نقطة ما. الأول، يقدّر أن «داعش»، الذي أظهر حراكه السوري مدى دقته في استقراء المتغيرات والتعامل معها بمرونة وانسيابية، استشف في الأفق تفاهماً أميركياً إيرانياً وإرهاصات جبهة إقليمية لتصفية التيار الإسلامي التكفيري، وعلى رأسه الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام. جبهة نشأت بذرتها الأولى في سوريا، ولحظ ارهاصاتها في العراق مع ما يحكى عن استعدادات عسكرية وصفقات تسلح لاستعادة الأنبار إلى كنف الدولة. كل ذلك دفع هذا التنظيم إلى شن هجوم استباقي تحصيناً لمواقعه واستعداداً للمعركة الطاحنة المرتقبة.
أما الاتجاه الثاني، فيقدر حصول عملية استدراج لهذا التنظيم في فخ، على غرار ما فعلته الولايات المتحدة بصدام حسين قبيل غزوه للكويت، من أجل التحشيد إقليمياً بهدف تصفيته.
ردود الفعل الدولية على سقوط الموصل تعزز هذه المقاربة. مسارعة أميركية إلى تأكيد استعداد واشنطن لتقديم «كل المساعدة اللازمة»، وأولها الأسلحة. بان كي مون بات «قلقاً بشدة»...
مشكلة هذا التحليل أنه يتجاهل حقيقة أن «داعش» بهجومه هذا، يكون قد أسقط أحد الثوابت لديه في قواعد الاشتباك التي وضعها لحراكه في العراق: تحييد الأكراد لغاية في نفس يعقوب. صحيح أن من مصلحة الأكراد إبقاء محافظات نينوى وصلاح الدين وكركوك، وغالبيتها مساحات متنازع عليها بين بغداد وأربيل، في حال اضطراب. لكن الأكيد أن السلطات الكردية لن تقف مكتوفة اليدين مع تمركز «داعش» على حدود الإقليم الذي تفاخر باستقراره. واقع وضع إربيل وبغداد في خندق واحد، لا بد أن يدفع الطرفين إلى وضع خلافاتهما جانباً لمواجهة الخطر الداهم عليهما.
المشكلة الثانية أنه تحليل لا يجيب عن السؤال: على ماذا يراهن «داعش» للصمود في ظل إدراكه أن عمليته العسكرية تلك ستوحد أطراف العراق كله والقوى المعنية في المنطقة ضده؟
ولعل الانكشاف الأكثر خطورة في ما جرى كان تعرية النظام العراقي الحالي، الذي لم يفشل فقط في إطلاق عملية إعادة إعمار للبلاد المدمرة في ظل فساد غير مسبوق، بل عجز عن إعادة بناء قواته المسلحة. قوات تلامس من حيث العدد مليوناً ومئة ألف عنصر، لكنها من حيث الفعالية عجزت عن فرض الأمن، حتى في الجنوب المتجانس، حيث لا يزال التكفيريون ينجحون بين الفينة والأخرى في قطع الطريق الرئيسي الذي يربط بغداد بالنجف وكربلاء، فضلاً طبعاً عن عشرات القتلى الذين يسقطون يومياً في بغداد، والفشل الذريع في دخول الفلّوجة، رغم مقتل وجرح الآلاف من الجنود العراقيين.
أما الإيجابية الوحيدة في ما يحصل، إن كان يمكن استخدام هذا التوصيف، فهو دفع القوى السياسية العراقية المتقاتلة إلى وضع خلافاتها جانباً وتسريع الخروج من أزمة الحكم المستعصية التي تعصف بالبلاد، تحت عنوان أن «لا صوت يعلو فوق صوت معركة» تتهدد الجميع من دون استثناء. اتجاه عززه موقف مرجعية النجف، في ظل تسريبات عن قرار بمقاومة شعبية لتنظيم «داعش» عبر تسليح الأهالي لمواجهته، في خطوة يدرك الجميع كيف تبدأ، لكن أحداً لا يعرف ما ستكون عليه خواتيمها.