حين قال رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في خطابه الأخير، بعد ساعات على إعلان سقوط عاصمة الشمال العراقي وثاني أكبر مدينة فيه، الموصل، إن ما حدث من انهيار عسكري تام لقوات النظام هو مؤامرة، اعتبر البعض على مواقع التواصل الاجتماعي، وأنا منهم، ما قاله تقليداً يعتمده المهزومون، ولكنني سجلت تحفظاتي على هذا الرأي أيضاً. وحين لفظ المالكي كلمة «خدعة» كوصف آخر لما حدث، و«إشاعات منسقة»، تذكرت ما كتبه القيادي البعثي الستيني الراحل هاني الفكيكي، أحد أقطاب الانقلاب العسكري في 8 شباط 1963، في كتابه «أوكار الهزيمة»، ونصّه: «لقد أسقطنا نظام الزعيم عبد الكريم قاسم بسلاح الإشاعة». ومعروف جيداً أنّ نظام البعث متمكّن جداً من استعمال هذا السلاح ومن إدارة الحرب النفسية والمخابراتية بشهادة أطراف محلية وأجنبية.
بدأت الحقائق تتكشف الآن. فما حدث في الموصل كان «انقلاباً عسكرياً من نوع خاص»، عملت عليه قيادة عزت إبراهيم الدوري بصمت وصبر ودهاء لوقت طويل حتى تمكنت من زرع شبكة معقدة ومؤثرة من الضباط السابقين الذين تم استثناؤهم من اجتثاث البعث في المؤسسة العسكرية لحكم المحاصصة، وخصوصاً في محافظتي نينوى وصلاح الدين، واستغلت داعش «كخُراعة خُضرة» كما يقال في اللهجة العراقية، أي «خيال المآتة» لإرعاب المستهدفين، ضمن تحالف انقلابي لاأخلاقي تماماً وفاقد للأفق!
غير أن الزمن الذي كان يخطط فيه البعث وينفذ وينتصر ثم يحكم البلد لعدة عقود ولّى إلى غير رجعة، وستكون الوقائع على الأرض في نينوى وتكريت كفيلة بتبديد أحلام الدوري وميليشياته خلال أشهر قليلة، وربما أسابيع، ولكنها للأسف الشديد ستكون مريرة ومؤلمة للعراقيين في تلك المناطق! وأول كابوس سيفشل الدوري في تبديده هو الاشتباك الحتمي بالسلاح بين عناصره المسلحة وداعش ومن معها، وكاد يبدأ هذا الاشتباك قبل قليل بسبب تعليق صور الدوري في المناطق المسيطر عليها من قبلهم ولكنهم تفادوه! لكن الأكيد هو أن هذا الانقلاب قد وضع خطة تقسيم العراق قيد التنفيذ، وفتح باب التدخلات الإقليمية «الإيرانية والتركية» والعالمية الغربية واسعاً، بل واسعاً جداً!
جاء خطاب المالكي متناقضاً ومرتبكاً وسطحياً. ويبدو أن هدفه الرئيس مما قاله هو رفع معنويات حلفائه وشركائه في الحكم، إذْ يبدو أنه لا يتوب ولا يملُّ من تضليل وأكاذيب مستشاريه وقادته العسكريين، حتى وهو في قاع هزيمة عسكرية خطرة كالتي حدثت أخيراً.

ما حدث في الموصل كان
«انقلاباً عسكرياً من نوع خاص»، عملت عليه قيادة عزت الدوري
قال المالكي أيضاً إن هناك مؤامرة وراء سقوط الموصل، وإنه يعرف التفاصيل والأسماء ومن أطلق الإشاعة وأمر بسحب القوات، مع أنها كانت كافية لصدّ المهاجمين، بل أكثر من كافية. وبعدها بساعات، نعم بساعات، سقطت مدينة تكريت! فهل كان المالكي يعرف التفاصيل أيضاً، أم أن الوقت لم يسعفه لتفادي الضربة الثانية؟ كلام المالكي يوحي بأن اختراقاً أمنياً قد حدث داخل قيادات الجيش في الموصل لمصلحة داعش وحزب البعث/جناح الدوري، وهذا وارد جداً، وأرجّحه تماماً، ولكن المشكلة وسبب الانتكاسة وسقوط نينوى بيد داعش والبعث الصدامي الدوري ليس هنا، بل في فشل رئيس الوزراء ومن معه في العملية السياسية الطائفية، وفشلهم في الخروج منها، أو تعديلها وجعلها قابلة للحياة، لأنها أسّست على أيدي المحتلين الأميركيين لتكون ضد المضمون التعددي والمتنوع للمجتمع العراقي.
نعم، لقد فشل المالكي في إنجاز مصالحة وطنية مجتمعية حقيقية، وفي ملف الخدمات، وفي الملف الأمني، وصار حامياً للفساد والفاسدين في حكومته، وفاقمت حكومته وأجهزته من الاستقطاب الطائفي والقومي بين العراقيين، وخلال ذلك بقيت العملية السياسية تواصل تعفنها وتحللها، وقد بُحَّت أصوات الوطنيين الديموقراطيين المناهضين للاحتلال والطائفية من الصراخ والتحذير من نتائج ذلك وخطورته على وجود العراق ووحدته وسلامة شعبه!
ما حدث خلال الأيام الماضية على الأرض واستيلاء داعش وحلفائها على عاصمة الشمال العراقي ومدن أخرى هو إعلان وفاة رسمي وأخير للعملية السياسية الطائفية، وليس أمام المالكي سوى أمرين متاحين: إغراق العراق والعراقيين في حرب أهلية طويلة ومدمرة لن ينتصر فيها أي طرف، أو، وهذا هو الخيار الثاني الذي لن يجرؤ عليه المالكي كما أعتقد، الإجهاز على أساس العملية السياسية الطائفية والدعوة إلى عقد مؤتمر تأسيسي بمشاركة جميع القوى السياسية والأطراف المجتمعية ليعدل الدستور ويطلق عملية سياسية وطنية تحرّم وتجرّم الطائفية السياسية، وتعلن علمانية ومدنية الدولة القائمة على المواطنة وليس على دولة المكوّنات، كما أراد المحتلون وحلفاؤهم.
ما قاله المالكي اليوم سيكرره بعد شهر أو شهرين بالمضمون ذاته، ولكن الاختلاف في المشهد هو أن آلافاً أخرى من العراقيين ستقتل وتجرح وتهجر، ومدناً أخرى ستدمر وتحرق، ووحدة العراق وشعبه ستكون في مهب الريح.
ولكن، كيف نُفّذ انقلاب الموصل؟ بربط الأحداث الفعلية على الأرض وتحليل الشهادات والتسريبات والتقارير الإخبارية الخاصة بما بات يسمى انقلاب الموصل، نعتقد أن طرفين رئيسيين شاركا فيه عملياً: الطرف الأول هو «بعث الدوري» وكانت حصته تشمل التخطيط وزرع شبكة الضباط البعثيين في القيادات العسكرية الحكومية وتجهيز بضع مئات من المسلحين في الميليشيات النقشبندية، بعد أن تبدّدت تنظيمات البعث وجبهاته «المقاومة» التي كان يعلن عنها الدوري في بياناته في السنوات الماضية. أما الطرف الثاني الذي وفّر المسلحين المدربين جيداً فهو التنظيمات التكفيرية كداعش وأنصار السنّة وغيرهما، إضافة إلى قوى عشائرية طائفية يقودها شيوخ عشائر من أمثال حارث الضاري الذي بارك الانقلاب من العاصمة الأردنية، وعلي حاتم ورجال دين من أمثال رافع الرفاعي وعبد الملك السعدي اللذين طالما اعتبرا الجيش العراقي «جيش احتلال في المنطقة الغربية». وقد أكد أحد الشهود العيان هذا المعنى لصحيفة «البديل العراقي» الإلكترونية، حين قال إنّ المسلحين الذين اقتحموا الموصل كانوا من غير العراقيين في غالبيتهم، وحين نفّذوا الاقتحام وهدأت الأوضاع وخرجنا من بيوتنا، وجدنا بدلاً منهم مسلحين عراقيين يحمون المصارف والمؤسسات، في حين التحق المسلحون غير العراقيين بساحات قتال أخرى!
لقد نُفّذت خطة الانقلاب بسلاسة وسهولة بمجرد حلول الساعة الصفر التي زوّدت القيادة الانقلابية بها ضباط الشبكة الاختراقية داخل قيادات الجيش في محافظتي نينوى وصلاح الدين، فوجد القادة الكبار، كنائب رئيس الأركان عبود قنبر وقائد القوات البرية علي غيدان، أنفسهم دونما جيش أو ضباط وسطيين، ولم يكن في وسعهم سوى طلب إخلائهم من قبل الميليشيات الكردية إلى مدينة أربيل القريبة. وقد تفادى قائد عمليات نينوى مهدى الغراوي هذا المصير، لأنه كان حينها في مقر إحدى قطعاته في ضواحي الموصل، وبالضبط في منطقة الخازر، وقد حاولت أطراف كردية تشويه الرجل وفبركوا له صورة يظهر فيها أحد أفراد ميليشيات «البيشمركة» خلفه، ولكنه نجح في إثبات أنه لم يغادر موقعه وأنه مستمر في استجماع بقايا قواته. ونشير إلى أن عناصر البيشمركة لعبوا دوراً مشؤوماً ومريباً في الأحداث، فكانت تجبر العسكريين المنسحبين على خلع ملابسهم العسكرية وتعطيهم ملابس مدنية ثم تظهرهم بمظهر الفارين من المعركة أمام الكاميرات.
على صعيد المضاعفات والنتائج المهمة، المتوسطة والبعيدة المدى لهذا الانقلاب الذي خطط له ونفذه الدوري وحلفاؤه في المنظمات السلفية الانتحارية، يمكننا أن نرصد ونسجل النتائج والمضاعفات الآتية:
ــ وضع العراق ككل قيد التقسيم إلى دويلات طائفية، أو في الأقل فصل محافظتي نينوى وتكريت وأجزاء من ديالى بقوة السلاح، أما الأنبار فلها وضعها العشائري الخاص الذي سيُصَعِّب تنفيذ هذا المخطط فيها. فالنزوع الوطني العراقي متجذر هنا، وقد أفشل مخطط تحويل المحافظة إلى إقليم رغم قوة وكثافة الأطراف التي دعت إليه، والعداء للتكفيريين يسود مناطق واسعة من المحافظة، ربما تستثنى من ذلك مدينة الفلوجة، إضافة إلى حساسيات محلية لم تكن ظاهرة للعيان في الماضي القريب تشوب العلاقات بين المكوّنات الأفقية «عشائر وأسر» في الأنبار ونينوى.
ــ فتح الباب واسعاً أمام التدخلات الإقليمية، وخاصة إيران المدفوعة بالهاجس الطائفي والاستهداف الغربي، وتركيا المدفوعة بالهاجس ذاته إضافة إلى الأطماع القديمة في «ولاية الموصل» في العهد العثماني. وكذلك فتح الباب أمام التدخلات الغربية التي قد تأخذ شكل عودة مباشرة، ولكن تدريجية، لقوات الاحتلال الأميركية إلى أرض العراق، أو، في الأقل، تقديم المساعدات الكبيرة لنظام المحاصصة بما يكفل توثيقه بالمزيد من قيود التبعية للولايات المتحدة.
ــ انقلاب الموصل دفن نهائياً فكرة إنهاء أو حتى تخفيف تطبيق الاجتثاث للبعث والبعثيين ضمن قانون «المساءلة والعدالة»، وستطلق الحكومة الحالية حملة عنيفة وشاملة ضدهم، ولن يكون سهلاً بعد الآن على الديموقراطيين واليساريين المطالبين بإنهاء ملف الاجتثاث أو التخفيف منه أو اعتباره جنائياً وليس سياسياً أن يكرروا مطالباتهم هذه، بعد أن ثبت بالدليل القاطع أن مرض هذا الحزب المزمن بالتآمر والانقلابات لا شفاء منه، وهذا ما سيجعل آلاف الأبرياء يدفعون ثمن حماقات الدوري وجشعه الى كراسي الحكم الانقلابي في زمن انتهت فيه حكاية الانقلابات المسلحة.
ــ سيكون هذا الانقلاب آخر حفنة تراب تهال عملياً على قبر «الصدامية السياسية» والقوى الميليشيوية في العراق، وسيقوّي من أوار الاستقطاب الطائفي ويفتح باب الاقتتال الطائفي والتكفيري المتبادل والمكشوف بين عرب العراق. وفي كل هذا، فإنّ عاراً جديداً قد أُلحق بالبعث الصدامي؛ فإذا كان أعداؤه يسجّلون عليه أنه تعاون مع المخابرات الغربية في انقلاباته السابقة، فهو في عهد الدوري قد وضع يديه بأيدي التكفيريين من قتلة شعبه ومفجّري المدنيين العراقيين في الشوارع ودور العبادة بسياراتهم المفخخة وأحزمتهم الناسفة، وهذا ما قد يدفع بعض البعثيين العراقيين المخلصين لأفكارهم وتجربتهم إلى أن يقولوا كلمتهم النقدية في ما حدث، مع أننا لسنا متفائلين كثيراً بحدوث ذلك.
ــ سوف يتسبّب الانقلاب بضياع محافظة كركوك الغنية بالنفط والمتعددة المكونات وضمّها إلى الإقليم الكردي، وهي محتلة عملياً من قبل البيشمركة الكردية منذ يوم الخميس 12 حزيران، ولن يتحمّس للدفاع عنها الكثيرون من غير العرب السنّة بعد الذي جرى في الموصل وتكريت، ولكن محافظة الأنبار قد تقترب أكثر من محافظات الوسط والجنوب ليشكلوا معاً نواة عراق آخر ينهي الدويلات الميليشيوية الطائفية في الموصل وغيرها، بمجرد سقوط حكم المحاصصة الطائفية في بغداد.
ــ وعلى المقلب الآخر من هذه الصورة المتشائمة، يكون هذا الانقلاب قد أعلن أيضاً نهاية حقبة حكم المحاصصة الطائفية وعمليتها السياسية ودستورها الاحتلالي، وأثبت بالدليل الملموس خطرها على وحدة العراق ووجوده كدولة وعلى سلامة شعبه. والسؤال الآن هو: كيف سيتم إنهاء هذه الحقبة عملياً والانطلاق نحو بناء عراق المواطنة والمساواة على أنقاض عراق المكوّنات والمحاصصة؟



فيسك: السعودية تموّل الخلافة

اتهم الكاتب روبرت فيسك، في مقال في صحيفة «ذي أندبندنت» البريطانية، أمس، السعودية بالوقوف وراء ما يحصل في العراق. وقال إن «الخلافة الإسلامية في العراق وبلاد الشام وفاتحي الموصل وتكريت والرقة في سوريا وربما بغداد، ومذلي بوش وأوباما»، هم «من أفظع إسهامات السعودية في تاريخ العالم». وأضاف إن «الجهاديين الممولين من قبل السعودية والحكام في الكويت، من حلب وصولاً إلى الحدود العراقية ــــــ الإيرانية، إضافة إلى المجموعات المتنوعة الأخرى، يسيطرون الآن على آلاف الأميال المربعة».
وفي هذا السياق، رأى فيسك أن «من الممكن قريباً أن تبتعد قطر عن دعم المسلحين المتطرفين في العراق وسوريا، لتتقرّب أكثر من النظام السوري، وذلك بدافع الخوف والكره العميق لجارتها السعودية».
(الأخبار)