براء يحيى عياش تشير عقارب الساعة إلى السابعة مساءً. في مثل هذا التوقيت أصغيت قبل شهر بانتباه وبلهفة لأكثر من ساعتين إلى كلّ ما قاله أبو جاسر الذي تعرفت إليه بالصدفة. ولد أبو جاسر عام 1927 في قريتي «رافات»، التي تبعد عن مدينة يافا 18 كيلومتراً فقط. أما الذهاب إلى هناك، فمستحيل من دون تصريح من الاحتلال. والمرفوضون أمنياً، تبدو الصين أقرب إليهم من يافا، التي تستطيع أن تشمّ هواء بحرها وأنت على سطح أحد منازل القرية. تقع رافات على حدود الـ1967 الفاصلة بين الضفة الغربية والأراضي المحتلّة. ولدت في رافات قبل 21 عاماً، ومثل أي شاب وُلد في قرية لم يسكن فيها إلا في مراحل طفولته، ورحل بعدها ليعيش في المدينة القريبة، يُراودني سؤال لم أجد له جواباً، ولا أعتقد أنني سأجد: هل سأقضي حياتي في المدينة، أم سأعود لأستقرّ في قريتي؟

حالياً لا يهمني السؤال، فأنا أستمتع كثيراً بزيارتي المتكررة لرافات. وأحب تلك اللحظات التي أجلس فيها مع جدّي ليحدثني عن «أيام زمان». جدّي «أبو يحيى» من مواليد عام 1933، وكان من ضمن الحرس القروي الذي تشكل بعد النكبة. والحرس عبارة عن تشكيلات عسكرية من القرى المحلّية الواقعة على خط الهدنة بين الأردن وإسرائيل عام 1948.
لطالما حدثني جدي عن تلك الفترة. وأكثر حادثة زرعت في ذاكرتي، هي عندما روى لي ما جرى معه ومع صديقه أثناء دورية كانا يقومان بها. إذ كانت دوريتهما مؤلفة من شخص يحمل السلاح وآخر يحمل الذخيرة. خلال حراستهما، لاحظ جدي وجود جنديين من العصابات الصهيونية يحملان الأسلحة ويحاولان التسلل إلى الضفة. وما إن رفع جدي السلاح إلى كتفه، الذي أعاد تمثيل المشهد لي بالعصاية التي يتكئ عليها، حتى خطف زميله منه البندقية وقال له: «رح تقتلهم وبعدين رح يقتلوا أهل البلد! خلّيهم يمشوا». لا أستطيع نزع هذه الجملة من عقلي. هل بدأت نكبتنا بسبب حوادث كهذه؟
لا أعلم لماذا يصرّ جدي في كلّ مرة أزوره فيها على رواية قصّة حرب 1967 أيضاً. نجلس على «البرندة» المطلّة على يافا. يمنحك النظر إلى يافا إيماناً لا تعرفُ سببه. يُخيّل إليّ أنني لو حملت حجراً ورشقته في اتجاه الشفق، لخرج صهيوني واضعاً يده على رأسه صارخاً من الألمْ. قال لي جدي إن قريتنا لم تشهد من الحرب سوى تحليق ثلاثة طائرات عراقية لمدة لا تزيد على ثوانٍ معدودة، وبعدها لا شيء! هدوء تام، لا رصاص لا جيبات عسكرية، ولا شيء يوحي بوقوع حرب. وروى لي أيضاً عن الشائعات التي سمعوها عن حدوث مجازر واقتراب الصهاينة منهم. رحل جميع أهل القرية إلى الوادي المجاور، وكان جدّي يشير بإصبعه إليه قائلاً: «هناك جميعنا تخبّينا ليلة كاملة».

إشتهر ابو جاسر بقدرته على «تشليح» العسكري برودته
بعد الغداء نزلنا إلى محل عمي، وهو عبارة عن مكان لإصلاح المحرّكات. جلسنا معه لتسليته، وللصدفة كان عمّي الثاني وابنه حاضرين أيضاً. اجتمعنا، وما هي إلا لحظات حتّى دخل علينا عجوز يبدو أكبر من جدّي في العمر، أطول منه بقليلْ، بُنيته تدلّ على أنّه كان صلب العود في شبابه، شعره الأبيض ولحيته البيضاء تضفيان هيبة عليه، كذلك ضحكته الجميلة التي تبدو غريبة لمن جاوز الثمانين. سلّم علينا وجلس في الجهة المقابلة لي. تولى عمّي الأكبر التعريف عنه باسم «أبو جاسر إنسان قديم». لم تمرّ دقائق حتى ضحك عمّي بلا سبب وقال: «أبو جاسر إحكيلهم كيف كنتو تسرقوا من الكيبوتسات». بدأ أبو جاسر قصّته لأول مرة في حضوري. قال: هذه القصّة وقعت عام 1950، الكيبوتسات هي ما تركه الإنجليز من معسكرات بكامل عتادها، ولم يكن يحرسها الجنود الصهيانة باستمرار. كان الكيبوتس قريباً من القرية، والتسلل إليه مخاطرة كبيرة. اتفقنا أنا وإبراهيم الله يرحمه وحمدالله وعُدي على الذهاب إليه قبل بزوغ الفجر بقليل. تسللنا داخل الكيبوتس وبقي عُدي على الباب يحرسنا، وما إن بدأنا بإخراج بعض القطع من الحديد حتّى صرخ عُدي بأن دوريّة قادمة. خرجوا جميعهم وبقيت وحدي. وما هي الا ثوانٍ معدودة حتى بدأ الرصاص ينهمر علينا». نجا أبو جاسر بأعجوبة، وحينما تسلل إلى الخارج لم يجد أحداً من أصدقائه. تدحرج إلى السهل القريب وهناك قام بتخبئة «القطعة» التي حصل عليها من الكيبوتس. وحينما التقى بأصدقائه لم يخبرهم عنها. أحضر في اليوم التالي حماراً وجلبها من السهل وذهب لبيعها في نابلس. هذا هو أبو جاسر المُغامر العنيد... الماكر!
وأبو جاسر كان المسؤول عن الحرس القروي في رافات. كان مشهوراً بخفّة يده وقدرته على «تشليح» العسكري سلاحه من دون علمه. في إحدى المرّات تحدّاه أحد رجال القرية. قبل التحدّي، يقول أبو جاسر: «كان الجوّ بارداً، ذهبت قبله إلى المكان الذي سيرابطُ فيه. كان يجب عليه المشي على امتداد الشارع الرئيسي للقرية، عرفت المكان الذي سيرتاح فيه ليدخّن سيجارة. فأحضرت حجراً مناسباً وجهّزت له المكان. جلس الرجل على الحجر واضعاً بندقيته إلى جانبه، وما إن أشعل السيجارة ونفخ النفس الأول، وضع يده إلى جانبه فلم يجد البندقيّة!». انتظره أبو جاسر في المكتب، حيث يسلم جميع الرجال أسلحتهم بعد انتهاء المناوبة. حضر الجميع ببنادقهم إلا من تحداه. عندها عرف الجميع ما حصل!
استخدم أبو جاسر الأسلوب نفسه عندما حضر ضابط أردني كان فظّاً وسيّئاً في معاملته. تركه أبو جاسر لينام في المغارة مع حرسه الشخصي، وسرق أسلحتهم جميعاً وهم نيام. وفي اليوم التالي رحلوا عن القرية بلا رجعة. بعد حرب الـ67 التحق أبو جاسر بالجيش الأردني ودرس العلوم العسكريّة، وأصبح ضابطاً في المدفعيّة الملكيّة، لكنه ترك وظيفته والتحق بأبو عمار في نهاية السبعينيات في لبنان. قاتل في اجتياح بيروت، وذهب بعدها إلى سوريا، وبعد العفو من ملك الأردن عمّن انضم إلى الثورة استطاع العودة إلى مدينة الزرقاء، وعاد بعدها أخيراً إلى قريته التي خرجَ منها. استمعت وابن عمّي إلى أبو جاسر للمرّة الأولى. اكتفى ابن عمي بالتحديق مدهوشاً وقال: «والله شاف كثير أبو جاسر». استأذننا الرجل وخرج بنفس الروح والضحكة التي دخل بها. لم أنس أبو جاسر حتى هذه اللحظة.
بين كلّ أصدقائه الذين سقطوا بجانبه في الضفة أو في بيروت أو في الجنوب اللبناني، تنهّد أبو جاسر عندما ذكر اسم صديقه مُصعب. قال لي إنه كانت هناك فتاة شاميّة، طويلة كالخيزرانة، تتمايل كغصن البانْ، لون عينيها أجمل من خشب الكلاشنيكوف، تحمل خصلة شعر بيضاء تلمع كالنصل الذي يُثبّت على سبطانة البندقية، عنيدة وأبيّة، التعامل معها خطر كمحاولة تنظيف البندقيّة والرصاصة في بيت النار، وأنّ مُصعب قد استشهد في حُبّها، لم يقل أكثر، وأنا لم أسألْ.




يعود أصل اسم قرية رافات إلى الكنعانية. إذ إن الاسم مشتق من «رافائيل»، أي الشفاء من الله، ثم تحول الاسم مع مرور الوقت ليصبح رُفات، لما تحتويه القرية من مقابر كثيرة، وخصوصاً المقبرة الرومانية. وقد أُسست القرية على تلة ترتفع 750 متراً عن سطح البحر، وذلك قبل 700 سنة. يذكر أن القرية مقسمة إلى قطاعين: (ب) و (ج)، وذلك بعد اتفاق أوسلو. ويقطن أغلب سكان القرية ضمن القطاع (ب) الذي يخضع للسلطة الفلسطينية سياسياً واقتصادياً، بينما يتحكم بها العدو أمنياً.