«نحن نعارض بشدة تدخل الولايات المتحدة وغيرها (من الدول) في العراق. لا نوافق على هذا الأمر، إذ إننا نعتقد أن الحكومة والأمة والمرجعيات الدينية العراقية قادرة على وضع حد للفتنة. وسيفعلون ذلك بإذن الله»، بضع كلمات كافية لتحديد معالم المرحلة المقبلة التي تنبئ بصيف حار في العراق... والمنطقة.
الحديث لمرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي، ويأتي تتويجا لتطورات متسارعة أدخلت العراق والمنطقة في أتون نفق قد يتفق البعض على أوله، لكنّ أحداً لا يعرف إلى ماذا سينتهي.
كانت الأيام الثلاثة الماضية قد حفلت بالرسائل المتبادلة بين الأطراف المعنية بالوضع العراقي، خلاصتها واحدة: تريد الولايات المتحدة أن تثمّر الهجوم «الداعشي» في بلاد الرافدين لتغيير موازين القوى في هذا البلد، وللعودة إليه من الباب العريض، بعدما خرجت منه عام 2011. الرسالة الأميركية كانت واضحة: مستعدون للتدخل العسكري شرط تأليف حكومة وحدة وطنية لا يرأسها نوري المالكي، تكون مقدمة لتغيير بنيوي في النظام يؤمن «شراكة حقيقية» في الحكم للمكونات العراقية. وقد ترافقت، خلال الأيام العشرة الماضية، مع سلسلة من الإجراءات الميدانية، لعل أولها إيفاد نائب وزير الخارجية الأميركي لشؤون العراق بريت ماكورك ليتولى إدارة الملف من بغداد، مع إقامة غرفة عمليات في عمّان، وتسريبات عن نزول جنود أميركيين إلى الأرض في العراق.

لم يكن التأييد
الإيراني للمالكي
رغبوياً في أي لحظة
حتى يوم الجمعة كان واضحاً أن لا صدى للرسالة الأميركية في طهران، حيث كانت الأجهزة المعنية تعكف على تقدير الوضع وتلمس الخيارات، في وقت كانت فيه خطوط الاتصالات المباشرة الأميركية الإيرانية مفتوحة، من خلال الجولة الخامسة من المفاوضات حول النووي الإيراني في فيينا. ولعل تأخير الجواب يعود في جزء منه إلى استبيان إلى ماذا سيؤول الموقف الأميركي من النووي الإيراني، لكن فشل المفاوضات، مرفقاً بتحذير الدبلوماسي «المنفتح» محمد جواد ظريف من أن نتيجة كهذه ستفتح الباب لكل طرف للعودة الى ممارساته القديمة، عكسا بما لا يدعو الشك رغبة إدارة باراك أوباما في توظيف التطورات العراقية لتصليب موقفها من الحقوق الإيرانية، التي كان واضحاً منذ البداية أن طهران مصممة على عدم التفريط بأي منها، وإن أظهرت «مرونة» في التفاوض حول بعض تفاصيلها. ولعل هذا ما يفسر صدور القرار الفصل الإيراني حول العراق (كلام خامنئي) بعد نحو 24 ساعة من عودة المفاوضين الإيرانيين إلى طهران وتقديم تقريرهم كاملاً إلى القيادة.
لا يعني هذا طبعاً تمسكاً إيرانياً بنوري المالكي لشخصه. لم يكن التأييد الإيراني لهذا الرجل رغبوياً في أي لحظة، حتى في أوج الأزمة السياسية التي تعصف بالعراق منذ أشهر، وإن كان لا يمكن انكار أن مواقف المالكي الخارجية، وصلابته في التعامل مع ملفات المنطقة، تمثل رافعة قوية له لدى الإيرانيين، الذين يدركون جيداً مدى تعثره في إدارة الملفات الداخلية. والدلائل على ذلك كثيرة. في فترة ما قبل الانتخابات، كان جواب الإيرانيين لكل الداعين إلى تنحية المالكي من الشيعة أنفسهم أن الكلمة ستكون لصناديق الاقتراع. ولهذا السبب نزلت الأطراف الشيعية الانتخابات كل بلائحة منفردة، مع تعهد مسبق بدخول الندوة البرلمانية تحت لواء «التحالف الوطني». ولما صدرت النتائج وأظهرت فوز المالكي بأكبر عدد من المقاعد، وتصاعدت حدة المعارضة الداخلية للمالكي، كان الجواب الإيراني «اتفقوا على من تريدون ضمن ضوابط ثلاثة: لا حكومة من خارج التحالف الوطني، ولا حكومة من دون المجلس الأعلى، ولا حكومة من دون رضى المرجعية».
صحيح أنه في تلك الأيام، بعثت الإدارة الأميركية بأكثر من رسالة تعلن فيه رفضها التجديد للمالكي، لكنّ المعنيين في طهران لم يعيروها اهتماما مباشراً، لكونها من دون رافعة على الأرض. جل اهتمامهم كان منصباً على اصلاح ذات البين بين العراقيين أنفسهم، مع علمهم المسبق بأنه لا يمكن لأي رئيس حكومة آخر أن يصل السلطة من دون أن يسميّه المالكي أو يوافق على تسميته. في النهاية، يبقى رئيس أكبر كتلة برلمانية، نواتها 93 نائباً، لكنها تصل في بعض الحسابات (التحالفات الفردية) إلى نحو 120 برلمانياً. أما اليوم، بعدما جعل الأميركيون أنفسهم المالكي عنواناً للمعركة الدائرة حالياً في العراق، فقد بات التمسك به مفتاحاً للربح والخسارة، وما عادت القضية قصة توازنات داخلية، بل تحولت إلى «مؤامرة أميركية تركية قطرية سعودية لتوجيه ضربة إلى محور المقاومة»!
وبالحديث عن «المؤامرة» لا بد من الإشارة إلى مجموعة من النقاط، لعل أولاها أنه ما عاد مهماً البحث عن أسباب ما حصل والجهات التي دفعت باتجاهها، سواء كانت أطرافا منعزلة أو غرفة عمليات مشتركة. فالأمور بخواتيمها وتداعياتها. ومع ذلك يمكن الجزم بقدر معقول من الدقة، بأن التفجير في العراق جاء على خلفية النجاح في اجراء انتخابات في كل من سوريا والعراق، وتأمين فوز بشار الأسد ونوري المالكي فيهما.
علما بأن انتخابات سوريا كانت مفصلا كاشفاً أظهر محدودية هامش الحركة لدى المجموعات المسلحة، بدليل عجزها عن إجهاض عملية الاقتراع الذي كان يعد أمراً حيوياً بالنسبة إليها.
من هنا كانت الساحة العراقية، بصراعاتها وإخفاق النظام منذ 2003 على كل المستويات التنموية والعسكرية والاجتماعية والسياسية، فضلاً عن الأزمة التي تعصف بالبلاد منذ مدة، الساحة الطبيعية للضربة الانتقامية.
الحديث عن «استقلالية» داعش يبدو مقنعا من دون أن يعني أنها لا تحظى بدعم أطراف أقليمية عديدة بحكم التخادم المبني على تقاطع المصالح. السعودية تريد استعادة عاصمة العباسيين وتعزيز أوراقها في مقابل إيران. وتركيا تريد نصرا إقليمياً بعد هزائم متتالية، بالاضافة إلى مصلحة في دولة كردية تابعة تمتص نفطها. وقطر تريد استعادة دور إقليمي مفقود. فضلاً عن إسرائيل التي تريد تفجير أي بوادر لاتفاق أميركي إيراني، وتقسيم المنطقة الى فسيفساء عرقية ومذهبية، وأميركا التي تريد الحؤول دون إحياء طريق الحرير، ومصلحة الكل بـ»هلال سنّي» يقطع «الهلال الشيعي»... وبغض النظر عن مدى مساهمة كل من هذه الأطراف في نشوب الأزمة، فإنها جميعا سعت إلى امتطائها والاستفادة منها. اللافت هنا كان موقف واشنطن، التي تدرك جيداً أنها قادرة على توظيف التمدد الداعشي تكتيكياً، وطالما بقي تحت السيطرة، لكنها حاسمة في أنه يمثل خطرا على أمنها القومي على المدى الطويل. كذلك حال السعودية، التي سبق أن عانت الآثار السلبية لظاهرة الأفغان العرب، فكيف إذا كان المارد التكفيري يترعرع على حدودها.
الخلاصة، سعى الكل إلى توظيف التطورات لتعويض خسائر الأعوام الماضية. وتحول الأمر فجأة من «هجوم داعشي» إلى «ثورة السنّة»، تحت عنوان أن «من بين كل 10 مقاتلين، 8 من البعثيين وعسكر صدام، وفقط اسلاميان اثنان»، مع عروض بوضع حد سريع للظاهرة المستجدة إذا جرت الاستجابة لبعض الشروط «التي تعيد العقارب إلى الوراء لسنوات خلت».
بقيت إيران، التي يبدو أنها الأكثر حرصا على وحدة العراق، ليس طبعا بسبب الحجة الساذجة بأنها تفضل السيطرة على العراق كاملا على أن تحكم جزءاً منه، بل لأنها تدرك أن أي تقسيم لبلاد الرافدين سيعني دولة كردية ستكون اسرائيل جديدة على حدودها الغربية، ودولة سنية تكفيرية تخوض معها حرب استنزاف لا تهدأ. إيران التي حدد مرشدها أمس الرؤية والمسار، بما يشير إلى حرب جديدة ستدور رحاها في العراق، ولن تقف آثارها عند سوريا والأردن ولبنان، بما ينبئ بصيف ساخن، يرجح أن تكون حرارته أكثر حماوة مما قد يقدر البعض.