ريف دمشق | لم يكن ابن داريا الخمسيني، محمد المحاربي، طامعاً بالكثير. كل ما كان يريده عملاً ما يسمح له بإطعام زوجته وأطفاله الثلاثة. حين استولت «كتيبة أحرار داريا» على أحد مستودعات الأغذية التابعة لأحد «الموالين للنظام»، ذهب محمد إلى أحد قادة «الكتيبة»، طالباً منه العمل في المستودع. وبعد موافقة الأخير: «عملت لمدة شهر كامل، ولست عشرة ساعة في اليوم.
وعندما طالبت براتبي، رمى لي أحد المسلحين مبلغ 12 ألف ليرة سورية، لا تكفي لشراء شيء، وبعدما جادلته في ذلك بادرني بالقول: إن لم يعجبك ذلك فامشِ من هنا، هناك المئات يطلبون العمل». ترك المحاربي عمله حينها وغادر داريا مع الدفعة الثانية التي نزحت من المدينة في نيسان من العام الماضي. قد يبدو سلوك فصائل المعارضة المسلحة مرفوضاً، لكنه بالنسبة إلى «أبو همام»، ابن مدينة جسرين في الغوطة الشرقية، «أرحم بألف مرة من الطريقة التي يتعامل بها شيوخ جبهة النصرة مع العمال»، حيث يقحم مقاتلوها الدِّين للوصول إلى «قمع مقبول» لمطالب الناس. يروي «أبو همام» قصة أحمد، الخادم لأحد جوامع جسرين، والذي استبقته «النصرة» في الجامع، بعد أن استطاعت السيطرة عليه، ووعدته بإعطائه كامل أجره. «أبقوه في الجامع ثلاثة أشهر كاملة، من دون أي بدل مادي. وكلما طالب بحقه، كان يخرج إليه أحد «شيوخ السلبة» (توصيف يطلقه الدمشقيون على المشايخ الذين يستغلون الناس مقابل «البركة الدينية») طالباً منه الصبر حتى تتحسن أحوالهم، علماً بأنهم كانوا يستحوذون على أموال طائلة كان يتبرع بها المصلون». لم يستطع الشاب أن يلحّ عليهم أكثر «فالتزم الصمت حتى قضى باشتباكات جسرين قبل سبعة أشهر».

استبْقَت «النصرة»
خادماً في أحد الجوامع من دون أي بدل مادي
جميع قصص هؤلاء تنتهي إما بموتهم، وإما بنجاحهم في مغادرة المدينة، بعيداً عن عيون المقاتلين/ «أصحاب العمل». يؤكد ياسر الجارحي، أحد النازحين من حيّ الحجر الأسود جنوبي دمشق، أن من الصعب على العامل أو الموظف المطالبة بحقوقه، فلا يدري متى «يخطر ببال أحد المقاتلين أن يصدر فتوى جهنمية بحقه. قد يدفع حياته ثمناً لمطالبته تلك». وهذا ما يفسر، بحسب الجارحي، التزام عدد من الشبان بدوامهم في مخفر الحجر الأسود، الذي تحول إلى «مخفر الحجر الأسود الثوري» بعد سيطرة «فرقة تحرير الشام» عليه، من دون أي اعتراض، «رغم أنهم لا يقبضون أي بدائل مادية جراء عملهم. مجرد وجبة غذاء كافية في ظل الشح».
ولا تتوقف الأعباء على الضيق المادي الناتج من استغلال المقاتلين للعمال والموظفين، بل تتعداها لتشمل حالة الهلع المستمر التي تصيب هؤلاء جراء التفكير في احتمالات الموت في كل دقيقة، إن لم يكن عبر انفجار أماكن عملهم، فعن طريق الاشتباكات التي لم تشهد هدوءاً في الكثير من أماكن الريف الدمشقي. يستذكر الجامعي عمران نجار العديد من أبناء منطقته المليحة، الذين أجبرهم بقاؤهم في المدينة على العمل في مستودعات تصنيع الهاون. «العشرات من هؤلاء قضوا خلال انفجار أحد المستودعات عن طريق الخطأ. هؤلاء دفعوا الثمن أولاً بشقائهم جراء الشروط الجائرة التي تفرضها كتائب المعارضة في ما يشبه الإجبار على العمل معهم، وثانياً عبر خسارة أرواحهم من دون أن يكون لهم القرار في ذلك»، يروي نجار.
محاربة التجار... و«التعفيش الشرعي»!
بعد سيطرة المعارضة المسلحة على أحد الأحياء، غالباً ما تبدأ بتهديد تجار الحي المحسوبين على «الموالاة». لا تتعلق المسألة هنا بنقمة على جشع التجار ولا على الموالين، حيث لا تلبث تلك الفصائل المقاتلة أن تبدأ حملتها في تلفيق الاتهامات لأصحاب المحال التجارية، أياً كانت انتماءاتهم، بما يفضي إلى استيلائها على تلك المنشآت والمحال، وإعادة تشغيلها بالطريقة السابقة نفسها، إن لم يكن بأسوأ منها.
تعود ذاكرة رامي المغربي، ابن حي التضامن الدمشقي، إلى الأحداث الأولى في حيّه، قبل سنتين، عندما قامت «كتيبة أبابيل حوران» (النواة الأولى لفرقة «تحرير الشام» اليوم)، بالاستيلاء على محال ومستودعات عدة في شارع فلسطين، بحجة أن أصحابها «شبيحة»، وبعدها «ببضعة شهور، عندما ازداد الحصار عليهم، بدأ المقاتلون بسرقة محال محسوبة على محايدين ومعارضين للنظام، بحجة أنهم غادروا الحي في أحلك الظروف، حيث أعادوا فتحها وبيع محتوياتها، معتمدين على صغار السن، الذين يقبلون بمئة إلى مئتي ليرة في الحد الأقصى». يرفض المغربي الحديث عن فروقات بين المعارضة المسلحة و«جبهة النصرة» التي قامت بعد دخولها إلى التضامن «بالسطو على منازل المدنيين ومحالهم التجارية، في الحارات الجنوبية الشرقية للحي»، وعندما رفض بعض سكان التضامن ذلك السلوك، بررت «النصرة» فعلتها بأن «هؤلاء المدنيين ينتمون إلى «الجبهة الشعبية ــ القيادة العامة»، وبالتالي فإن السيطرة على منازلهم لأهداف تمويل القتال وصمود المقاتلين شرعية».