منذ سنوات، تسعى قطر التي لا تتعدى مساحتها أحد عشر ألف كلم مربع الى «ابتلاع» العالم. سطوة الإمارة على المنطقة، التي بلغت ذروتها خلال السنوات الثلاث الماضية، لم تكن البند الوحيد على أجندتها في تلك الفترة. لقد حاولت الدولة الخليجية أن تصبح أخطبوطاً يطال جهات العالم الأربع بواسطة الأموال. مرة تشتري كأس العالم، وأخرى تشتري فرقاً رياضية عالمية، ثم تطلق وسائل إعلام، أو تحتكر قناوتها بث بطولات رياضية، قبل أن تضع يدها على شركات نفط وأزياء دولية، وتسيطر على قصور وأراضٍ شاسعة في أوروبا، ثم تقرر بناء مساجد بملايين الدولارات في فرنسا، وتموّل تنظيمات متطرفة هناك...
وهذا جزء يسير من مجالات الاستثمارات القطرية غير المحدودة.
تحاول الإمارة الخليجية استغلال ميزتها الوحيدة: البترو دولار. تسوّق لنفسها بواسطة استحقاقات دولية تخفي في كواليسها صفقات مشبوهة عقدتها الدوحة مع حكومات ومنظمات دولية. غير أن الإمارة وشركاءها لم يسلموا من سيل فضائح عرّت تفاصيل تلك الصفقات. ولعل «أقسى» فضيحة طاولت الدوحة في الأشهر الماضية، كانت فضيحة شراء بطولة كأس العالم (2022)، التي تهدد قطر بفقدان «حلم» المونديال.
غير أن الفضائح القطرية العابرة للقارات، ليست خارجية فقط، إذ إن الوثائق المسربة تميط اللثام عن فضائح هدر الأموال الحكومية على «رفاهية» أسرة آل ثاني الحاكمة.

قرّر تميم تشكيل
لجنة متخصصة في «البحث في أسباب الفساد»
في 12 كانون الأول 2013، أرسل الديوان الأميري برقيةً الى رئاسة الوزراء ووزير الداخلية تحت خانة «سري وعاجل»، تبلغ فيها رئيس الوزراء عبد الله ناصر بن خليفة بقرار «تشكيل لجنة رفيعة المستوى برئاسة رئيس الوزراء والنائب العام وعضوية محافظ مصرف قطر ووزير العدل ورئيس هيئة الرقابة الإدارية والشفافية ورئيس ديوان المحاسبة». على أن تكون اللجنة متخصصة في «البحث في حجم مظاهر الفساد في قطر وتحديد أنواع وأسباب الفساد وإيجاد أفضل السبل لمواجهتها والحد منها والقضاء عليها». هذه الرسالة تلتها أخرى في التاريخ نفسه من مكتب الأمير أيضاً، الى رئاسة الوزراء تبلغها تشكيل لجنة خبراء، بإشراف رئيس الوزراء تختص بالبحث في «الأسباب الكامنة وراء ارتفاع تكلفة المشاريع في دولة قطر، مقارنةً بمثيلتها في الدول الأخرى»، وتطلب «اقتراح أفضل السبل لمواجهة هذه الظاهرة والحد منها».
إذاً، الفساد الداخلي بات يمثل أزمة جدية، دفعت بتميم الى البحث في مكامنه وأسبابه، غير أن الوثائق المسربة تبيّن أن هذه الأسباب قد تعصى على «المكافحة»، فكيف تكافح لجنة هدراً تظنه أسرة آل ثاني من مسلمات الحكم؟
في الدوحة «هيئة متاحف»، ترأسها الأميرة مياسة بنت حمد آل ثاني. ووفق الوثائق، يبدو أن هذه الهيئة مهمتها الرئيسية هي تمويل الرحلات السياحية التي تقوم بها الأميرة. وحين نقول «رحلات سياحية» نقصد مناسبات للبذخ الأسطوري.
وفق الوثائق، تصل كلفة يومين تمضيهما الأميرة مياسة في فندق أميركي إلى 73,765 دولاراً أميركياً. تستأجر الليموزين لتتجول بها في شوارع كاليفورنيا، فتصدر الفواتير بعد أيام بقيمة 80 ألف دولار. في رسالة بتاريخ 5/9/2013، تحيل وزارة الخارجية طلب الوفد القطري الدائم لدى الأمم المتحدة بتسديد ما دفعه (نحو خمسمئة ألف دولار) من ثمن إقامة مياسة في فنادق سانت باربرا وبيفرلي هيلز وغيرها في كاليفورنيا، الى رئاسة هيئة المتاحف. على سبيل المثال، كلفة إقامة «سعادة الشيخة» في فندق سانت باربرا، خلال الرحلة التي استغرقت أياماً قليلة، وصلت الى 50 ألف دولار. أما النزهة في ديزني لاند يوم 23/08/2013، فقد سجلت 15685$، تلتها رحلة سفاري في سان دييغو (جنوب كاليفورنيا)، تخطت ثمانية آلاف دولار، وهو مبلغ «معقول» جداً، مقارنةً بالأرقام الخيالية المدرجة في الفواتير! فإقامة الأميرة المدللة في منتجع Pebble beach خلال المدة نفسها، في آب 2013، تخطت 109 آلاف دولار.

تصل كلفة يومين تمضيهما الأميرة مياسة في فندق إلى 73,765 دولاراً

حتى هذا الحد من الصرف، كانت رحلة استجمام الأميرة الى كاليفورنيا لا تزال «عادية» جداً. الفواتير المرفقة بمراسلة الخارجية القطرية وهيئة المتاحف تظهر أن مياسة لم تكتفِ بالليموزين التي تنزهت فيها في شوارع لوس أنجلوس وبيفرلي هيلز، وسان فرانسيسكو، بقيمة 231750$ (قيمة إيجار السيارات فقط)، بل قررت، وفقاً لما قد تظنه أحد طقوس أن تكون من السلالة الحاكمة، أن تستأجر طائرة. في 28 آب الماضي، استأجرت مياسة طائرة Jet 79 بقيمة 222 ألف دولار ليوم واحد فقط. هذا المبلغ مصنّف، كما يكشف طلب سفارة قطر في واشنطن من الدوحة تسديد المدفوعات، مثل تكاليف الرحلات الأخرى، ضمن «حسابات من خارج ميزانية هيئة المتاحف».
وثيقة أخرى بتاريخ 7/4/2013 تكشف مراسلة بين سفارة قطر في لندن والخارجية القطرية، تطلب فيها السفارة تسديد تكاليف رحلات مياسة وبنات عمها، فتطلب الخارجية بدورها من هيئة المتاحف تسديدها الى المرافق البريطانية. زيارات مياسة وابنة عمها الأميرة آمنة بنت حسن الى لندن، وصلت الى 168,618 جنيهاً استرلينياً. أما الشيخة جفلة بنت خليفة بن حمد، فكلفة تنقّلها (ثمن إيجار السيارات الفارهة) في بالتيمور، في ولاية ماريلاند، تفوق 97 ألف دولار خلال شهر تشرين الأول عام 2012.
اللافت في الفواتير المحولة من السفارة في واشنطن الى الخارجية، ثم الى هيئة المتاحف، بتاريخ 31/05/2013، أن أجور «حمالي المطار والفندق» الذين استقبلوا وودعوا الأميرتين آمنة وجفلة، لم تتجاوز 360$ و700$. «سخاء» حكام قطر، الذي يبدو أنه لا يشمل العمال، يغدقه آل ثاني على «من هم فوق» فقط. فجأة، يتحول الأمراء في الدوحة الى حاتم الطائي، عندما يتعلق الأمر بالسفراء وعائلاتهم، على سبيل المثال.
قررت الأميرة مياسة، مثلاً، أن «تكرم» السفير الإسباني في الدوحة. فنرى في «قائمة هدايا مقترحة» صادرة عن الديوان الأميري، ساعة رولكس بـ 42 ألف دولار مهداة لابن السفير، وبروش ألماس «على شكل طاووس»(!) بـ 60 ألف دولار لابنة السفير. حتى والد السفير شمله الكرم الأميري، عبر ساعة كارتييه بأكثر من 20 ألف دولار.
قد يكون نمط حياة حكام قطر متوقعاً، كذلك بالنسبة إلى نمط حياة كل الأسر الحاكمة في الخليج. هؤلاء الذين يعرفون أن المال علّة وجودهم، فيستغلونه الى أقصى الحدود. لكن الجديد هنا، أن الهدر بدأ «يزعج» الدوحة.


■ للاطلاع على الوثائق أنقر هنا




مرتع للعبودية المعاصرة

تلطخت سمعة قطر في الآونة الأخيرة في قضية المعاملة السيئة التي يتلقاها مئات آلاف الآسيويين العاملين في المشاريع التحضيرية لكأس العالم 2022، الذي مثل حصول الإمارة على استضافته فضيحة بحد ذاتها. قبل أسبوع، أصدرت وزارة الخارجية الأميركية، تقريرها السنوي بشأن «الدول الأكثر إتجاراً بالبشر»، حيث احتلت قطر المرتبة الثانية بعد تايلاند.
الدولة الأغنى في العالم لناحية دخل الفرد، تمثل مرتعاً للعبودية المعاصرة، التي ظهرت جلياً في فضيحة «مونديال 2022»، حيث سُجلت في الإمارة الخليجية انتهاكات عديدة لحقوق العمال، منها العمل لساعات طويلة في مناخ سيئ، بالسخرة.
ويصل عدد العمال المهاجرين في قطر إلى نحو 1.4 مليون، وهم يشكلون الغالبية العظمى من السكان البالغ عددهم 2 مليون نسمة. غير أن نظام الكفالة المجحف المطبّق في قطر والدول الخليجية يؤدي الى انتهاكات وحشية تحيلنا الى عصر عبودية جديد.