خالد جمعةهل كان يدورُ في خَلَدِ أبي حينَ غادر قريةَ «حتَّا» قبلَ اثنين وستين عاماً أنَّه سيموتُ ويُدفَن في مدينةِ رفحْ عام 2000 وهو لم يعُد إلى بيتِهِ بعدُ؟
بالتأكيدِ لم يخطُر له ذلك ولو لثانية واحدة، بدليل أن المال الذي حمله معه من القرية كان كافياً لشراء مدينة رفح كاملةً، وجزء من مدينةِ خان يونس بحسبَ أسعارِ الأراضي في تلك الفترة (ثمانون قرشاً فلسطينياً للدونم الواحد).

أبي لم يكُن لديه بيارة. كانت يملك قطعة أرض لا يزرعُها مع جدي. لم تكن الأرضُ كبيرة، ولم يكن هذا سبب عدم زراعتِه لها. فقد كان يعملُ في صناعة أحجار البناء في معسكرات البريطانيين، اذ كان المسؤول عن توريد العمال إلى المعمل، ما وفَّرَ له إلى جوار المال ثقافةً مختلفةً عمن حوله. فقد كان يذهبُ إلى السينما على نحو دائم، كما بنى بيتاً صغيراً من الحجر وشبابيكُهُ «أباجورات» من الخشب لم تكن معروفة في ذلك الحين. كان «غاوياً» على حدِّ تعبير أمي، التي أخذت منه الكثير من العادات. فقد كانت القرية وبشهادة سكانها تؤجِّلُ أعراسَها إذا كانَ أبي مشغولاً، اذ كان أبي «لوّيحاً» من الطراز الأول، ويقول الشعر الشعبي «على الواقف»، وحين يكون عمي هو عازف الأرغول، فإن انسجامهما في العرس يخلق مشهداً لا يُضاهى.
خبرةُ أبي الرئيسية في الحياة... البرتقال. كان يدخل إلى البيارة ويمشي بين الاشجار، وبسهولة مطلقة يحدد الوزن الذي ستنتجه البيارة. وفي احدى المرات أخذت منه الرقم المفترض في بداية الموسم، وبقيت أراقب حساباته يوميا طوال شهور العمل، وأجمعها في دفتر صغير. اكتشفت في نهاية الموسم أن الرقم الذي قاله والدي لم يزد إلا 150 كيلوغراما عن الوزن الذي حققته البيارة.
ليس هذا فقط، فقد كانت يداه ميزاناً لا يخطئ. وهنا لا أتحدث عن تخمينات، فعلى سبيل المثال، في عيد الأضحى كنا نحضر ميزان جارنا صاحب البقالة لنزن اللحم الذي سنوزعه على الأقارب. كان أبي يقطع اللحم ويضعه في كيس ويربطه، فأقول له: «انتظر قليلا حتى ازنها». يرد مبتسماً: «وزِّن انت وملكش دعوة»! زنت الأكياس من بعده، كلها من دون استثناء، وكانت جميعها تزن كيلوغراماً أو كيلوغراماً ونصف كيلوغرام لا أكثر.

كان يريد والدي
الموت قبل طلب المساعدة من أحد
محمود سليم، وهو الاسم الذي اشتهر به أبي، علّمنا جميعاً، أنا وأخواتي الخمس وأخويَّ. لم يتردد أو يشكو من مصروف أخي في مصر، الذي كان يصرف ستة أضعاف ما يصرفه أقرانه سنوياً. سمح والدي لأختي بالسفر للدراسة في مصر عام 1971، في الوقت الذي كان فيه الكثيرون يحجمون عن إرسال بناتهم إلى المدارس.
محمود سليم كان ديمقراطياً بالفطرة، ولن أنسى في حياتي كلمته بعدما تزوجت وقررت ترك مدينة رفح للسكن في مدينة غزة. قال بهدوء: «لا أحبذ فكرة تركنا لتسكن في غزة، لكن الله يسهل عليك». أذكر حين كنا صغارا انني كنت شخصياً أتعرض لتوبيخٍ مرعب إذا أسأتُ إلى أختي الصغيرة: «إنت في إيش أحسن منها؟».
أبي كان مزارعاً لا يشق له غبار أيضاً. فقد زرع في متر مربع واحد أمام منزلنا، العنب والفلفل والباذنجان والبقدونس والجرجير... إلخ، ولم تذبل بين يديه شتلة واحدة، فهو على حد تعبير خالي: «إيدو خضرا».
أما عن القهوة التي أجَّلتُ الحديث عنها عن قصد، فلا أظن أن التاريخ الفلسطيني كله شهد أو سيشهد من يصنع القهوة مثل محمود سليم، اذ كان يستهلك أكثر من 5 كيلو غرام منها في شهر رمضان، لأن ثلاثة أرباع مخيم الشابورة في رفح (حوالى 50 ألف نسمة) كانوا يمرون مساءً لتناول القهوة من يديه، كما كانت علاقته بأصدقائي مستقلة عن علاقتهم بي، كانوا يحبونه على نحو لم أفهمه إلا متأخراً. ذات مرة تمنيت منه تعليمي طريقته في صنع القهوة. ضحك وقال: «بعمل قهوة من سنة 1936 وعمري في حياتي ما فكرت قديش بحط قهوة، بعاير بايدي وعيني وبحط وبسيبها تغلي من غير زمن محدد لما أحس انها استوت بنزلها».
أذكر ايضا كيف كنا انا واخوتي نترك الدجاج المشوي لنتعارك على قطعة خبز يحمصها أبي على النار، التي تعوّد اشعالها يوميا وصيفاً وشتاء إلى حين وفاته. لم يستعمل أي حطب غير حطب البرتقال، فهو كما يقول «نظيف وجمرته طويلة الروح».
من العبارات الأكثر حكمة التي قالها لي يوماً وهو يشرح لي ونحن في السوق ـ كنت في الثامنة ـ كيف انتقي اللحم الجيد او الخيار او الطماطم: «اسمع يابا، الغالي رخيص والرخيص غالي». طبعاً لم أفهم ما قاله يومها، لكن هذه الحكمة ستجد طريقها في حياتي بعد ذلك حتى يومنا هذا. فالشيء الغالي [حذاء مثلاً] تدفع فيه ثمناً مرتفعا، لكنه على المدى الطويل يصبح رخيصاً، لأنه قبل اهترائه تكون عشرة أحذية رخيصة قد اهترأت قبله، وبهذا يصبح الغالي رخيصاً والرخيص غالياً!
كان يقول لي، أريد أن أموت قبل أن يمد إليَّ أحدٌ يدَهُ. وفعلاً، في أواخر حزيران من عام 2000عاد من السوق وأخذ يزرع الريحان [الحبق] على باب بيتنا، فأحس بألمٍ في رأسِه، ودخل في غيبوبة لمدة ثلاث ساعات فقط. مات والدي ودفن حيث عاش لأكثر من نصف قرن، وهو يتحدث عن [حتَّا] ويحلمُ بها، ويحلم دائماً بإخوته الشهداء الثلاثة الموزعين على الزمن الفلسطيني كأنهم رمز المأساة الشخصية التي تتحول إلى رمز عام برغم فردانيتها.
قد يكون محمود سليم مجرد رجل يشبه رجالاً كثيرين، لكنه أبي. عرفته عن قرب، قرأتُ أحلامَه وعشتُ قضية التهجير من خلال حسرتِه التي كان يخرجُها مع نَفَسِ التنباك الذي يعدُّهُ بيدِه. محمود سليم في الذكرى الثانية والستين للنكبة، وفي ذكرى رحيلِه العاشرة، ربما ما زال يحلمُ بـ[حتَّا] حتى الآن، فمن يستطيع أن يجزمْ قطعاً بأن الموتى لا يحلمون!



دمرت بيوت قرية حتّا خلال نكبة عام 1948 وأنشأ عليها الصهاينة عام 1949 مستعمرة «رفاحا» مستفيدين من المطار القريب الذي بناه البريطانيون خلال الحرب العالمية الثانية. ترتفع القرية 85 متراً عن سطح البحر، ويعتمد سكانها على زراعة الحمضيات. تتميز بيوت القرية بشكلها المستطيل وانتشار اشجار الصبار بينها. خلال النكبة هجّر لواء غفعاتي سكان القرية الى قطاع غزة المجاور، وطرد الصهاينة الجنود المصريين المنتشرين فيها.