«المعتدلون» هي التسمية المفضّلة لدى واشنطن تطلقها على حلفائها، أيّاً كانوا، لتضعهم في خانة تبرر تحالفها معهم. لكن حسب أي معايير يأتي «الاعتدال»؟ لا معايير لدى واشنطن: فالسعودية تقود «محور الاعتدال» العربي مثلاً (!)، واليمينيون المتطرفون في أوكرانيا هم «القوى المعتدلة» في البلاد، وثوار ليبيا الذين دعمتهم واشنطن أنتجوا «اعتدالاً» باهراً.
ومنذ بداية ظهور المجموعات المتطرفة في الحرب السورية، سارعت واشنطن الى ضمّ المعارضة السورية الى «لائحة الاعتدال» ذاتها. لكنها وقعت هذه المرة في فخّ التسمية ـــ البدعة التي ابتكرتها ورددها الإعلام الغربي السائد. فكيف لحامل سلاح أن يكون معتدلاً؟ كيف لمردّد شعارات طائفية ومذهبية أن يروّج لـ«اعتداله»؟ تولّى الإعلام الغربي السائد ترداد عبارة «المقاتلين المعتدلين» حتى بات من الوقائع الثابتة في تغطياتهم ومن المسلّمات في تعليقات أشهر الصحافيين. المسؤولون أيضاً أوهموا الناس بوجود «قوى معتدلة» سورية يجب على الولايات المتحدة أن تسلّحها. أين هم؟ ما اسمهم؟ ما هي مبادئهم؟ وضعت واشنطن «الجيش السوري الحرّ» منذ سنوات في واجهة «المعتدلين»، لكن سرعان ما تفكك وتطرّف بعضه أو عاد بعضه الآخر إلى صفوف الجيش السوري! ورغم التطورات المأساوية الحاصلة في الميدان السوري لناحية ازدياد تطرّف المقاتلين بشكل سريع، يأبى معظم الإعلام والمسؤولين أن يعترفوا بأن «المقاتلين المعتدلين» كانوا وهماً بل اختراعاً هشّاً. ومن عوّلوا على «اعتدالهم» في السابق يقفون اليوم الى جانب قوى مصنّفة «إرهابية» ومرتبطة بـ«القاعدة».

أعطِ عنصراً من
«الجيش الحر» صاروخاً مضاداً للدروع وسيبيعه بأغلى سعر


بعيد إعلان الرئيس باراك أوباما قراره بتخصيص 500 مليون دولار لتسليح «المعتدلين» في سوريا وتدريبهم، نشرت وكالة «أسوشييتد برس» لائحة بالمجموعات التي يرجّح أن تستفيد من ذلك الدعم الأميركي. وفي تلك اللائحة تظهر «جبهة النصرة» و«داعش» المصنّفتان إرهابيتين من قبل الإدارة الأميركية.
قليل من الصحافيين توقّفوا كما يجب عند هذه النقطة، والبعض تجاهلها تماماً، رغم إدراك معظم الصحافيين المعنيين أن السلاح في سوريا يتنقّل بين مجموعة وأخرى ويحطّ في النهاية بأيدي المتطرفين الذين يكدّسون السلاح النوعي منذ فترة ويحققون «الانتصارات». عدد قليل من الصحافيين لفتوا الى أنه نظراً الى الواقع على الأرض، لا يمكن أن تمنع أي مجموعة مقاتلة في سوريا من الحصول على أي سلاح يدخل الى البلاد. إضافة الى الانقسامات وتداخل قنوات السلاح في ما بينها، سلاح الحرب الأهلية السورية «ليس سلاح ولاء، والذي يحمله يمكن أن يبيعه حتى الى عدوّه»، شرح البعض. لذلك، يكاد يجمع من تناولوا الموضوع بنظرة انتقادية على أن السلاح الذي وعد به أوباما أخيراً سيصل بعضه عاجلاً أو آجلاً الى أيدي المقاتلين المتطرفين الذين تحاربهم الولايات المتحدة في بقاع أخرى من الارض وفي الجارة العراق حالياً».
«ليس هناك أي قوة معتدلة مستقلة وغير طائفية في الميدان السوري الآن»، خلصت معظم التقارير الصحافية، والبعض رأى في إعلان أوباما الأخير مدعاة للتهكّم والسخرية.
آندي بوروفيتز على موقع مجلة «ذي نيويوركر» اقترح، ساخراً، نسخة من طلب رسمي يجب على المقاتلين السوريين أن يملأوه لتفرز الإدارة في واشنطن بين «المعتدلين» وغيرهم فتسلّحهم. أراد بوروفيتز أن يشير الى أن من المستحيل فلترة المقاتلين السوريين حالياً، وأنهم جميعهم يصبون الى إقامة الخلافة الإسلامية في المنطقة.
«ليبارك الله باراك أوباما، فقد وجد مقاتلين معتدلين في سوريا!» كتب روبرت فيسك ساخراً في مقال في صحيفة «ذي إندبندنت» بعنوان «معتدلو سوريا ليسوا معتدلين كثيراً في العراق». الصحافي البريطاني، وفي إطار انتقاده لقرار أوباما منح المقاتلين السوريين «المعتدلين» مبلغ 500 مليون دولار، علّق بتهكّم على الكونغرس الذي «يريد تسليح مقاتلي الحرية الشجعان هؤلاء». إذاً فأوباما الذي أرسل نخبة من مستشاريه الى العراق لمساعدة الحكومة العراقية على مواجهة المتطرفين، يقرر دعم المقاتلين في سوريا الذين بمعظمهم يؤيدون مقاتلي العراق المتطرفين! يعترف فيسك بأنّ الأمر «محيّر»، لذا يقول إنه علينا أن نسأل بداية «من هم المقاتلون المعتدلون الذين يريد أوباما تسليحهم وتدريبهم؟». فالرئيس، حسب الكاتب، «لم يسمّهم ولا يستطيع تسميتهم، لأن القوة المعتدلة التي أرادت واشنطن مساعدتها بالتعاون مع «سي آي إي» وبريطانيا والسعودية وقطر وتركيا، أي «الجيش السوري الحر»، قد تحلّلت». فيسك انتقد أداء «الجيش الحر»، خصوصاً في ما يتعلّق بقيام عناصره ببيع الأسلحة التي زُوّدوا بها. «أعطِ عنصراً من الجيش الحر صاروخاً مضاداً للدروع وسيبيعه بأغلى سعر»، يعلق الكاتب. ويبقى السؤال الجوهري في مقال فيسك «كيف يمكنك أن تجد مقاتلاً معتدلاً في سوريا الآن؟»، الجواب: «المقاتلون الحاليون ليسوا معتدلين».
هل الإدارة في واشنطن على علم بما يجري على أرض الواقع في سوريا؟ لماذا تسهم إذاً في دعم «داعش» و«النصرة» وغيرهما من المجموعات التي تكلّف الحرب ضدها الخزينة الأميركية أموالاً طائلة؟ سأل البعض، فيما هلّل رجال الكونغرس المرتبطون بلوبيات السلاح لقرار أوباما، ورحّب به المتعطّشون الى حرب جديدة دائماً... لكن أحداً لم يصدّق وزير الخارجية جون كيري عندما أعلن من جدّة منذ أيام أن «المعارضة السورية المعتدلة التي سنقدّم إليها السلاح سيساعد مقاتلوها على دحر داعش في العراق أيضاً!». لم يصدّق أحد كلام كيري، حتى أحمد الجربا الجالس إلى جانبه.