هو آخر ما نملك من فلسطين؛ الأرض التي أنا منها وإليها حتماً سأعود. نعم وبحزن أعترف أني لم أستطع يوماً الوصول إليها رغم محاولاتي الدائمة للمشاركة بمؤتمرات وأنشطة داخل البلد كوسيلة توصلني الى هناك، لكنها باءت جميعها بالفشل!
يسألونني لماذا تتوقين للرجوع الى فلسطين وانت التي ولدت في بلد آخر؟ بماذا أجيبهم؟ لا يخطر في ذهني سوى ما قاله محمود درويش في إحدى قصائده: "أنا من هناك. ولي ذكريات". نعم، ببساطة، بكل بساطة، لي ذكريات شتى. ذكريات صنعت هويتي ورثتها عن جدي حيدر، الذي اجتمعنا البارحة في داره نودعه. يبدو أنه سيهجرنا قريباً، وللأبد!
حيدر، الذي تخطى التسعين عاماً، ما زالت أفكاره مولعة بأيام الشباب وتفاصيل مغامراته من لبنان الى فلسطين بعد النكبة. في كل مرة كنت أزوره مع أمي وأبي، كان يحدثني عن بطولاته في الاحتيال على الإنكليز أيام الانتداب البريطاني على فلسطين. حيث كان وشباب القرية مصدر قلق للجنود بالأخص عندما سرقوا ثيابهم من إحدى المعسكرات وباعوها في قرية أخرى.
أعترف مجدداً، أنني سمعت جدي يروي هذه القصص عشرات المرات. فمذ كنت صغيرة اعتدت أن أدخل غرفته الخاصة، مصوبة هدفي نحو درج صغير بجانب سريره. أنظر نحو الشباك المشترك مع غرفة جدتي لأتأكد من أنها لا تراني حتى لا ينتهي بي المطاف مطرودة من الدار. فيراني حيدر مترددة من الاقتراب أكثر، ينادي علي ان اجلس على ركبتيه ليروي لي حكاية عن فلسطين.
جميع أحفاد حيدر يعلمون بأمر الدرج هذا، فقد كان يحتفظ بالفستق وحبات السكاكر الحمراء، يعطينا منها عندما يكون في مزاج جيد. كنا نخاف دخول الغرفة إذا كان جدي غائباً عنها، ليس فقط لأن جدتي ستسبب لنا بمشكلة مع أبي، كما يحصل عادة، بل لأننا كنا نخاف أن يدخل جدي الدار ببذته السوداء رابطاً حطته على رأسه وبيده عكازه الخشبي. فيلاحظ جيوبنا الصغيرة مليئة بالفستق. عندها لن يحتاج أبي الى توبيخنا، فعكاز جدي تكون قد أتمت المهمة.
وجودي في داره البارحة، أعاد إلي ذكريات كثيرة، منها عندما اكتشفت أن جدي أصبح سمعه ثقيلاً، فخطر لي أنه عندما يراني أفتح باب الدار ويسألني إلى أين ذاهبة، أن أحرك شفاهي بعبث وكأنني أتحدث بصوت مسموع، فهو في كل الأحوال لن يسمعني. كدت أن أنجح في ذلك لولا أن جدتي التي كانت تجلس في الخارج مع صديقتها "بكيزة" سألتني أين أمي؟ فأجبتها بصوت مسموع "أمي بالمطبخ، رايحة أجيبلها علبة طحينة من دكانة أبو زكي". ما إن أنهيت كلامي حتى انهالت علي شتائم جدي. فقد اكتشفت أنه باستطاعته سماعي وأنا أتكلم مع جدتي!
تذكرت أيضاً الصورة المعلقة على حائط غرفته لامرأة ورجل بالأبيض والأسود. اعتقدت حينها أنها بالأسود والأبيض لأنهم لا يملكون أقلام تلوين مثل التي اشتريتها من مكتبة أبو سمير، فما كان مني إلا أن قمت بتلوين ثياب الأشخاص في الصورة بالأصفر والأحمر والأزرق، ثم علقتها مكانها. لن أخبركم ماذا فعل جدي عندما رآها!
أنظر الآن إليه وأنا جالسة بالقرب منه، لم يعد جدي كما كان يصرخ بنا "يا ماليت الجدرة منك الها، أغربي من هون" (أي ابتعدي من هنا) لا تساعده ركبته التي أصابها الصهاينة في ستينات القرن الماضي على الوقوف. كنت أعتقد أن تسلله في الليل من القرى اللبنانية المجاورة للحدود الى فلسطين هو أمر عادي فعله كل الأجداد، لكن عندما علمت أن عمي الذي يملك جنسية سويدية، زار فلسطين منذ بضع سنوات وتم حجزه من قبل الصهاينة للتحقيق معه كما أخبرنا، وأن الأسئلة كلها كانت تتعلق بـ"حيدر نصار"، أي جدي، الذي ما زال مطلوباً هناك، أدركت أن جدي كان بطلا حقيقياً.
في سهرتنا البارحة معه أصر على تذكيرنا ببيتنا في "كويكات" وبالأرض التي كانت لأبيه، وبالطبع بليرات الذهب التي دفنها في التراب قبل أن يُلقى القبض عليه ويعتقل. حكايات كثيرة أرادنا أن نحفظها عن ظهر قلب، راجياً أن نمررها لأطفالنا يوماً ما. تماماً كصورته التي وزعها علينا حين أدرك أنه لم يعد بقوته. ذهب يومها إلى استديو تصوير قريب من المخيم، وأحضر نسخاً عدة منها، ثم قام بوضع كل واحدة في إطار زجاجي، وزار كل بيوت أبنائه ليتأكد من أن تعلق صورته في المكان المناسب.
قبل مغادرتي الدار سمعته يردد:" بالليل، الليل، الليل... من لبنان لفلسطين... أهل مجد الكروم بيعرفوا".