غزة | كثيرة هي أساليب التهشيم التي استخدمتها إسرائيل في عدوانها الأخير على قطاع غزة، مستهدِفةً تشويه صورة حركة «الجهاد الإسلامي»، وإيجاد شرخ بينها وبين بيئتها الحاضنة وجمهور المقاومة عموماً. ولعلّ من أبرز تلك الأساليب محاولة إلصاق المسؤولية عن المجازر التي استهدفت المدنيين بالحركة، بالاستثمار في مجموعة ثغرات شارك في تظهيرها «الإعلام العشوائي وغير المسؤول». وعلى رغم أن مصادر المقاومة تقرّ بأن الأخطاء البشرية واردة، وبأن تحقيقاً فُتح لمعرفة ملابسات بعض الحوادث التي أحاطتها الشكوك، إلّا أنها تشدّد على أن هذه الأخطاء - في حال وقوعها - ليست الأولى من نوعها، وأن معالجتها تتمّ من وراء الكواليس حتى «لا تُغسَل يد الاحتلال من الدماء»، خصوصاً أن الأخير لا يتورّع عن التنصّل من مجازره بأيّ وسيلة، ولو تطلّب الأمر كذباً صريحاً، كما في حالة مجزرة مقبرة الفالوجا، التي عادت مصادر أمنية إسرائيلية أمس لتُقرّ بمسؤولية جيش العدو عنها
خلّفت معركة «وحدة الساحات» جدلاً كبيراً حول وقائع لم ينتهِ التحقيق الداخلي في مدى صدقيّتها؛ إذ استغلّ جيش الاحتلال توثيق كاميرات الصحافة والمواطنين، سقوط عدّة صواريخ فلسطينية بعد لحظات من انطلاقها، داخل قطاع غزة، للتنصُّل من مسؤوليّته عن عدّة مجازر أوقعت العشرات من الشهداء المدنيين، من بينهم أطفال. وقال المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، في هذا الإطار، إن «صواريخ الجهاد الإسلامي الفاشلة قَتلت عدداً أكبر من المدنيين في غزة مقارنة بالغارات الإسرائيلية»، فيما ادّعت صحيفة «هآرتس» أن إسرائيل مسؤولة فقط عن مقتل 29 فلسطينياً من بين 49 قضوا نحبهم خلال الجولة الأخيرة، وعزّزت ادّعاءَها بجملة تفاصيل غير مؤكَّدة، قائلة إن «16 مدنياً فلسطينياً، من بينهم ثلاث طفلات وطفل وأربع نساء، لا علاقة لهم بالقتال قُتلوا في هجمات الجيش، فيما 19 فلسطينياً، 12 منهم أطفال وطفلات، لا علاقة لهم أيضاً بالقتال، قُتلوا من جرّاء صواريخ فلسطينية فشل إطلاقها».
وعلى رغم المسؤولية الإسرائيلية التاريخية والمطلَقة عن مقتل أو جرح أيّ فلسطيني في أيٍّ من المعارك والحروب أيّاً يكن مصدر إطلاق النار؛ بالنظر إلى مشروع الاحتلال هو الذي تسبّب بظهور حالة المقاومة من أساسها، إلّا أن مصدراً في المقاومة يشدّد، في حديث إلى «الأخبار»، على أن ثمّة «جملة محرّمات ومحظورات لا تجوز معالجتها في الإعلام»، ضارباً مثالاً على ذلك «الأخطاء الداخلية البشرية التي حدثت طيلة مسيرة المقاومة وعُولجت داخلياً؛ كون النقاش المعلَن حولها وتقاذف التهم، يسهمان في غسل الإسرائيلي من المسؤولية عن الدماء». ويستدرك المصدر بأنه «أمّا وقد وقعْنا في مأزق استغلال بعض الأحداث المؤسفة، فإن التوضيح مهمّ، ليس لتبرئة ساحة المقاومة من أخطاء كهذه تظلّ واردة وقد تكرّرت ليس في جولات القتال فحسب، وإنّما أيضاً في شكل أحداث داخلية ناجمة عن أخطاء بشرية أو اختراق أمني تَبيّن لاحقاً أن الإسرائيلي وراءه».
وفي تعليقه على الدعاية الإسرائيلية، يَعتبر المصدر ذاته أن جيش الاحتلال «استغلّ عدّة ثغرات نتجت من أداء الإعلام العشوائي وغير المسؤول، في التصويب على المقاومة وتحميلها مسؤولية أحداث هي بريئة منها»، موضحاً أنه «في مجزرة جباليا، أعلن الجيش الإسرائيلي منذ اللحظة الأولى تفاصيل دقيقة لهجومه على المخيم، قائلاً إن المجموعة الفلسطينية التي أَطلقت رشقة صاروخية الساعة التاسعة من مساء يوم السبت 6/8/2022، حاولت التحصُّن في مسجد قريب عقب انسحابها، واضطرّ سلاح الطيران المسيَّر لملاحقتها واستهدافها ما تسبّب بوقوع ضحايا مدنيين»، مستدرِكاً بأنه «عقب ذلك، استغلّ المتحدث باسم الجيش انتشار مقطع لصاروخ سقط إثر انطلاقه، في إلصاق الحدث بالمقطع المتداوَل، علماً أن المكان الذي أُطلق منه الصاروخ المذكور تَظهر فيه بلدية غزة، أي أنه انطلق وسقط في حيّز مكاني بعيد جداً عن مخيم جباليا». ويتابع المصدر أنه «بعد تلك الحادثة، صار ملاحَظاً أن كلّ عمليات القصف التي تُسبّب سقوط ضحايا من المدنيين، نفّذتها الطائرات الحربية الإسرائيلية بالتزامن مع رشقات المقاومة الكبيرة؛ ففي تمام الساعة 3:30 دقيقة من مساء يوم الأحد 7/8، أطلقت المقاومة أكثر من 130 صاروخاً تجاه 58 مستوطنة ومدينة في لحظة واحدة، وفي الوقت نفسه أطلقت الطائرات المسيّرة الإسرائيلية صاروخاً تجاه مجموعة من الأطفال في مقبرة الفالوجا في جباليا، تسبَّب باستشهاد 5 أطفال، وفي لحظتها حاول الاحتلال التبرّؤ من المجزرة، غير أن بقايا الصاروخ الإسرائيلي كانت في أيدي السكّان».
بسبب تفرُّد «الجهاد» بالفعل الميداني، كان عليها أن تتحمّل نتاجات الجولة إيجاباً وسلباً


لكن ألم تقع أخطاء؟ يجيب المصدر بأن «الواقعية تقتضي أن نقول بأن مشروع صناعة الصواريخ محلّياً هو جهد بشري، بدأ من العدم، ومنذ تصنيع أوّل صاروخ في مطلع الانتفاضة الثانية عام 2000، سقطت مئات الصواريخ على منازل السكّان، وكانت الألطاف الإلهية فقط تُقلّص هامش الضحايا، وفي الجولة الأحدث وجولات ماضية، بقيت هذه الفرضية هاجساً مرعباً لدى المقاومة، وإمكانية أن يكون وقع خطأ من هذا النوع في المعركة الأخيرة واردة أيضاً، لكن الأمر بجلّه لم ينتهِ التحقيق فيه، كما أن نتاجات التحقيق وما سيترتّب عليه من معالجات، لن تكون مادّة بين يدَي الصحافة». وفي هذا السياق، تَطرح مصادر في المقاومة مجموعة من الفرضيات التي يجري التحقُّق منها في الوقت الراهن، وهي التالية:
أوّلاً: أن تكون ما نسبته 1% من الصواريخ التي أُطلقت في الجولة الأخيرة سقطت بسبب خطأ مصنعي أو سوء تخزين أو اضطراب في بيئة التربيض، مثل انهيار التربة أو انحراف الجسم المحيط بالصاروخ نتيجة عوامل جوّية، ما أسهم في انحراف مساره عند الإطلاق.
ثانياً: كان ملاحَظاً تعمُّد منظومة «القبّة الحديدية» إطلاق صواريخها الاعتراضية فوق المناطق المأهولة التي تقطعها الصواريخ في أثناء انطلاقها، ما يزيد من إمكانية تفجيرها - في حال نجح الاعتراض - فوق الأحياء المدنية وسقوطها. كما أن بعض صواريخ «القبّة» سقطت عقب فشلها في الاعتراض داخل تلك الأحياء، وقد قامت وزارة الداخلية في غزة بتفكيكها إثر انتهاء الجولة.
ثالثاً: حاول عملاء الاحتلال، في وقت سابق، «تشريك» بعض الصواريخ؛ وقد كشف فيلم وثائقي أصدره المكتب الإعلامي لـ«كتائب القسام» في نهاية كانون الأول 2019 حمَل عنوان «سراب»، عن مخطّط للعملاء للوصول إلى الصواريخ داخل مرابضها، وإفسادها حتى تنفجر قبل الانطلاق أو بعد ثوانٍ من انطلاقها، ما يتسّبب بوقوعها على منازل المواطنين.
رابعاً: قد تكون إسرائيل بدأت فعلياً في استخدام سلاح «الليزر» الذي يؤدّي مهمّة اعتراض الصواريخ، عبر تأثيرات لم يتمّ التحقُّق منها، إمّا عن طريق تحويل مسارها، أو تفجيرها في الحيّز المكاني الذي انطلقت منه.
من جهته، يرى الباحث السياسي، إسماعيل محمد، أن «السلوك الإسرائيلي يُظهر تضاعُفاً خطيراً في جهود الدعاية حول أثر صواريخ المقاومة على بيئتها الحاضنة»، معتبراً، في حديث إلى «الأخبار»، أنه «بسبب تفرُّد الجهاد بالفعل الميداني، فقد كان عليها أن تتحمّل نتاجات الجولة، إيجاباً وسلباً، وقد سهُل اتّهامها بأيّ خطأ وراد الحدوث. في هذه الجولة، على عكْس الجولات السابقة، لا أحد أبدع وضحّى سوى الجهاد، ولا أحد تحمّل عبء النقد الداخلي سواها أيضاً». ويُذكّر محمد بأن «إسرائيل حاولت تدعيم كذبها حتى في وقائع أكثر وضوحاً، كما في قتْل محمد الدرة على مرأى كاميرات العالم، حيث تبرّأت من دمه، بل وزوّرت المشهد كلّه في المجتمعات الغربية، وأظهرت الدرة على أنه طفل إسرائيلي يطلق الفلسطينيون عليه النار (...) الكذب الإسرائيلي صارخ ووقح حتى من دون دلائل عملية، فما بالك إذا تَوفّرت قرينة، وإمكانية للتبرّؤ من الجرائم عبر اختيار تواقيت ارتكاب المجازر مع تواقيت إطلاق المقاومة للصواريخ، أو من خلال وسائل أكثر أمنية وسرّية؟ كانت فرصة ذهبية استغلّها الاحتلال بخبث». ويَلفت إلى أن «الدعاية الإسرائيلية لم تستهدف هذه المرّة المجتمع الدولي فحسب، بل امتدّت أيضاً إلى حاضنة المقاومة، التي كان عليها أن تشكّل عامل ضغط معنوياً على الجهاد، بدعوى أن "صواريخ المقاومة تقتلنا"!».